في هذا الجزء، سنتحدث عن نقطتين، هما على التوالي:
1. الروائح والهوية
كيف يُعاش في مجتمع، يُنظر فيه إلى الزمن كسلسلة متعاقبة من الروائح؟
ما هي الطرق التي استُخدمت الروائح، لتصنيف الناس والحيوانات والنباتات في الثقافات المختلفة، من خلالها؟1
كيف تُستخدم الروائح لتصنيف ”الآخرين“ في المجتمعات المختلفة، فهل توفر نظرة ثاقبة أو، من الأفضل أن نقول ”دخيلة“، في بناء مفاهيم ”الوحدانية أو الذاتيّة“ و”الآخرية“، وأوجه التشابه والإختلاف الأساسية بينهما عبر الثقافات؟
أدى الدور الواسع الإنتشار
للرائحة كعلامة للهوية الإجتماعية والتمايز إلى إفتراض أحد العلماء، أوائل القرن العشرين، بأن تقارب المصانع
وتضادّها وسيلة مهمة للحفاظ على الجماعة (كوربين، 1986، 210)2.
واليوم، يستمر حضور الرائحة أو غيابها في الإشارة إلى حدود الذوق والطبقة والهوية على المستويات الشخصية والجماعية والمكانية.
على هذا النحو، تُنظَّمُ الروائح من خلال المحددات المادية للحد من إنتقالها إلى مساحات محددة. عندما تعمل هذه المحددات، تُنسى بالعموم.
ومع ذلك، بمجرد إختراق تلك المحددات، يمكن للروائح الكشف عن مشاكل في الهوية والتنظيم.
على سبيل المثال، عانى المواطنون العراقيون من تدمير النظام الإجتماعي من خلال عودة ظهور الروائح الكريهة، التي إحتوتها المجاري سابقاً.
وبالمثل، فإن تحركات روائح
الطهي المكسيكية عبر بعض الأماكن العامة في الولايات المتحدة الأمريكية، قد كشفت
بشكل فعال عن المهاجرين، وأدت إلى إجراء تحقيقات لاحقة بشأن التأشيرات الممنوحة
لهم3.
سمحت إزالة الروائح الكريهة بإتباع قواعد النظافة الجسدية، فقط، بالتحرُّر
منها وبإبراز الروائح الفردية وتنظيمها، أي تلك الروائح غير المحسوسة تقريباً
والتي تُشير إلى الهوية "الأعمق" للشخص. يُشكِّلُ الحياءُ خلفية للحياة
الإجتماعية، فتزداد أهمية تحويل المناطق الحميمة بالنسبة للأفراد إلى شيء
"تمثيليّ" أي شيء مُحايد على المستويين البصريّ والشمي.
من ناحية أخرى، إعتباراً من وجهة نظر الأعلى – الأدنى إجتماعياً، تتخلى قواعد النظافة بمحتواها الطبي العلاجي عن الإقصاء الإجتماعي سريعاً وتتجه نحو الإندماج المدني، لكن، سريعاً، تظهر مناهج أدقّ للتمييز والفصل، سيما على المستوى الشمي4.
في روما القديمة، إرتبطت الروائح بفكرة الهوية، لهذا، إعتقدوا بأنها تكشف حقيقة الشخص أو الشيء، وأمكنهم إستعمال العطور، أو غيرها من الروائح، لإخفاء العيوب، سيما من قبل النخب الرومانيّة ذاك الزمن5.
في مقالها "روائح الذاكرة"، تحدثنا لنا عبد الرحمن حول "هويّة روائحيّة وطنيّة"، قائلة:
علاقة المكان بالرائحة تربط أيضاً بين نوع مُعيّن من الطعام وصلته بالأرض وبالوطن وبالمكان الذي هجرناه، أذكر إحدى الجارات التي تهجّرت من فلسطين أنها ظلت تربط رائحة الزعتر بقريتها التي رحلت عنها، وأن كل أنواع الزعتر لا تتفوّق على رائحة الزعتر التي عرفتها يوماً في أرضها6.
من رتاباتنا ونزعاتنا في الحياة اليومية، إلى كيفية تعيين هويتنا ضمن جماعة واحدة ومستبعدة من جماعة أخرى، تلعب الرائحة دوراً صامتاً ومُحيِّراً ضمن عاداتنا الشخصية وفي تفاعلاتنا الاجتماعية7.
في روايته "الرجل الساقط"، يتحدث الروائي الأميركي دون ديليلو عن اللحظة المناسبة لتعرُّف الصبيّة ليان على رائحتها الجسدية الخاصة، لكي تتخذ قراراً شخصياً معيناً حيال وضعها ولكي تتمكن من مواجهة المستقبل:
"انتزعت القميص الأخضر النظيف، الذي لم
تصدر رائحة تعرُّق عنه، قد شمَّتها هي أو
ربما حمل أثراً باهتاً لها، لكن، هي رائحة لا تنتمي إلى رائحة كريهة ناتجة عن
الجري الصباحي. لقد كانت هي فقط، من خلال جسدها وعبره. لقد كان الجسد وكل ما نقله،
في الداخل والخارج، هوية وذاكرة وقلب بشريّ"8.
2. خسارة القدرة على الشمّ
عندما فقدت (حاسة الشم)- بدا الأمر لي كالإصابة بالعمى. فقدت الحياة قدراً كبيراً من مذاقها - لا يدرك المرء كم أنّ "المذاق أو الطعم" هو الرائحة.
تشمّ رائحة الناس، تشمّ رائحة الكتب، تشمّ رائحة المدينة، تشمّ رائحة الربيع - ربما ليس بوعي منك، ولكن، كخلفية غنية لا واعية لكل شيء آخر.
أصبح عالمي كله، فجأةً، أكثر فقراً على نحو جذريّ9.
إن رائحة الكعك المخبوز للتو، والورود في إزهرارها الكامل، وغيرها من الروائح اليومية، تجعل حياتنا أكثر ثراءً، غالبًا، ما نعتبرها من المسلمات.
ومع ذلك، عندما تُفقد حاسة الشم أو تتعرض للخطر - وهي حالة تسمى الخشام أو فقدان حاسة الشم - لا يتأثر الإستمتاع بالحياة فحسب، بل تتأثر الصحة والسلامة أيضاً.
تساعدنا حاسة الشم على إثارة الشهية، وتعمل أيضًا كنظام تحذير لتجنب الأخطار والسموم.
"يقول الطبيب ر. بيتر مانيس، أخصائي الأذن والأنف والحنجرة في جامعة ييل للطب:
"إن حاستي الشم والتذوق من أعظم ما يبهج حياة الناس".
عندما تتغير هذه الحواس أو تغيب، تفقد الناس هذه المتعة ويمكن أن يشعروا بالعزلة عمن حولهم، ممن لا يعانون من هذه المشكلة"10.
يمكن أن يؤثر ضعف حاسة الشم على ثلاثة أنواع من العلاقات الإجتماعية الوطيدة:
العلاقات الأسرية والصداقات والعلاقات الغرامية.
حيث تنقسم الأدلة على هذا التأثير إلى عدة فئات، تمثل الآليات المحتملة، التي يمكن أن يؤثر ضعف حاسة الشم، من خلالها، على العلاقات الإجتماعية الوثيقة:
إضطرابات الترابط أو
الإرتباط وإنخفاض الدعم الإجتماعي وعدم الإستمتاع بتناول الطعام الجماعي والمخاوف
المتعلقة بالنظافة الشخصية والسلوكيات الجنسية المتغيرة11.
المصادر
1. Aroma, The cultural history of smell, Constance Classen, David Howes and Anthony Synnott
2. The Odor of the Other: Olfactory Symbolism and Cultural Categories. Constance Classen. Source: Ethos , Jun., 1992, Vol. 20, No. 2 (Jun., 1992), pp. 133-166
3. Nosenography: how smell constitutes meaning, identity and experience in spatial assemblages. Robin Canniford, Cluster for the Study of Organization, Society and Markets, Department of Management and Marketing, University of Melbourne, Australia.
4. Die soziale Konstruktion olfaktorischer Wahrnehmung. Eine Soziologie des Geruchs. Dissertation zur Erlangung des akademischen Grades des Doktors der Sozialwissenschaften an der Universität Konstanz. Vorgelegt von Jürgen Raab im September 1998
5. Federico Kukso, Odorama; Historia cultural del olor. Taurus. 2019
6. Scents of Memory, by Lana Abdulrahman, from Doha, in Arabic
7. Cosmologies, Structuralism, and the Sociology of Smell, by Marcello Aspria November 7, 2008
8. Jane Levi, Engraved in the Mind: The Significance of Smell. The London Consortium.11 May 2012
9. Atchley, E. G. Cuthbert F. (Edward Godfrey Cuthbert Frederic), A History of the Use of Incense in Divine Worship, London, Longmans, Green & Co., 1909, p. 85.
https://dn790003.ca.archive.org/0/items/historyofuseofin00atch/historyofuseofin00atch.pdf
10. Loss of Smell
https://www.yalemedicine.org/conditions/smell-and-taste-disorders
11. Olfactory
Impairment and Close Social Relationships. A Narrative Review
https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC8385889/
للإطلاع على مواضيع أخرى ذات صلة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (1) تعريف علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (2) عدم الإهتمام بهذا العلم
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (3) أهمية الروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (4) آراء أخصائيين بعلم الإنسان بهذا الموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (6) دور الروائح في النفور والإنجذاب
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (7) تفادي الروائح الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (8) رائحة الأزهار وهويّة شميّة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (9) إدارة الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (10) إدارة الإنطباع الحسي متابعة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (11) متابعة الحديث حول الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (12) نهاية الحديث حول الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (13) مناهضة الحواس، سيما حاسة الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (14) مواقف فلاسفة وأخصائيين إجتماعيين من الموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (15) مواقف قديمة داعمة للموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (16) معاني وتصنيفات الروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (17) العلاقة بين الشمّ والروائح والذاكرة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (18) كيفية بناء التقييم الشميّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (19) حاسة الشمّ والأغذية والتذوُّق
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (20) الرمزية الشميّة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (21) تاريخ وسياسة حاسة الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (22) الشمّ والروائح والتقسيم الطبقيّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (23) حاسة الشمّ والروائح والتقسيم الجندريّ الجنسيّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (24) الروائح والعنصرية
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (25) عوالم حسيّة مختلفة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (26) الروائح والشمّ في الطبّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (27) أهمية بحث علم الإجتماع للروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (29) رائحة الفم (النَفَسْ) الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (30) رائحة الأقدام الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (31) جورج زيميل وحاسة الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (32) روائح المدن
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (33) العلاقة بين حاسة الشم والروائح واللغات
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (34) الروائح في العمل التجاري
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (35) الأديان الإبراهيمية والروائح والشمّ
No comments:
Post a Comment