في هذا الجزء، يجري الحديث حول موقف قديم مناهض للحواس عموماً، ولحاسة الشمّ على وجه الخصوص:
منذ قديم الزمان، رافقت الممارسات الشمية والروائح الطبيعية الكائن البشريّ في لحظات تاريخية مختلفة:
الزهر، الشجر، الحرش، رائحة
البحر الملحية أو رائحة الأرض المتبللة بالمطر الهاطل للتوّ وروائح كثيرة أخرى.
دخلت هذه الروائح والأريج والعطور أو الزيوت العطرية، بشكل تدريجي، إلى الثقافات
بصورة واعية أحياناً؛ وبصورة تحت واعية بأحيان أخرى، حيث حضرت في الطبيعة لحظة
ظهور الكائن البشريّ على سطح الأرض1.
ترك
تقييم الفلاسفة لحاسة الشمّ تأثيره، دون شكّ، على أبحاث العلوم الطبيعيّة بالعموم،
وعلى العلوم الإجتماعية والثقافية بشكل خاص. تركزت الأسئلة الفلسفية، دوماً، على
وجهات النظر التالية:
هل
الحواس، بالعموم، وسيلة مناسبة لإكتساب المعرفة؟
إن تكن هكذا، أيّة حواس ذات أهمية أكبر بتحصيل تلك
المعرفة؟
ما هي الحواس إنطلاقاً من وجهة نظر أخلاقية: أيٍّ منها
جيّد وأيٍّ منها مُستهجن على المستوى الأخلاقيّ؟
إنطلاقاً من هذه الإعتبارات، كيف يمكن وضع تراتبيّة
حواسيّة؟
بحسب
بارميندس، الحواس هي مصدر كل خلل أو خطأ. فهي تُقدِّمُ لنا عالماً مفعماً
بالتحوُّل والخطأ والحركة، ووفق رأي بارميندس، هي ليست تحولاً ولا حركة، بل وجود
ثابت لا يتغير ولا يتبدل2.
بالنسبة لأفلاطون (427-347 قبل الميلاد)، حاسة الشمّ،
كما الرائحة، هي واحدة من الملذات الإلهية ضئيلة الأهمية. وقد كتب القليل جداً
حولها3.
بحسب أنطوني ساينوت:
خلق أرسطو تسلسلًا هرميًا واضحًا للحواس. في الأعلى، وضع حاستي البصر والسمع البشريتين وفق إسهامهما على مستوى الجمال والموسيقى، ويمكن أن يقودا إلى الله. في الأسفل، وضع حاستي الذوق واللمس الحيوانيتين، حيث يمكن إساءة إستخدامهما، عن طريق الشراهة والشهوة على التوالي، ولا يمكن أن تقودا إلى الله. في الوسط، وضع حاسة الشم، حيث لا يمكن إساءة إستعمالها، في نظر أرسطو، ولكن، بالنهاية، لا تقود إلى الله؛ رغم ذلك، فقد صنفها كحاسة إنسانية، لكن، هي أدنى الحواس“. تابع توما الأكويني الخطّ الذي رسمه أرسطو4.
بحسب فيديريكو كوكسو:
كما هو مذكور في أعمال أرسطوفان وزينوفون، أشار الفيلسوف سقراط إلى أن الروائح تعكس وتشير إلى الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الشخص. وبالتالي، مثَّلَ وضع العطور عملية إخفاء للفروق الشمية بين المواطنين الأحرار والعبيد. وقال إن الرائحة الوحيدة المشروعة للرجل هي رائحة الزيت المستخدم في الصالات الرياضية. وقد تعلم تلميذه أفلاطون من أستاذه: وكما يذكر عالم النفس والكاتب الهولندي بيت فرون: فإن الفيلسوف ادعى أن الروائح لا تحفز سوى المتعة الجسدية وأنها حكر على العاهرات. من ناحية أخرى، يجب أن يهتم الأشخاص الفضلاء بخيرات الروح. كما إهتمَّ أرسطو أيضًا برائحة الجسد الكريهة: ”لماذا تبدو رائحته كرائحة الماعز بعدما يتعطر؟“ أو ”لماذا تبدو رائحة النَفَس أبشع وأثقل لدى الأشخاص المنحنين والحُدْبٍ؟"5.
يتبع
المصادر
3. Elogio y vindicación del olfato, Alfonso Fernández Tresguerres, disponible aquí:
https://www.nodulo.org/ec/2003/n013p03.htm
4. A sociology of smell, Anthony Synnott. The Canadian Review of Sociology and Anthropology, vol. 28, nº 4, in November 1991
5. Federico Kukso, Odorama; Historia cultural del olor. Taurus. 2019
للإطلاع على مواضيع أخرى ذات صلة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (1) تعريف علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (2) عدم الإهتمام بهذا العلم
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (3) أهمية الروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (4) آراء أخصائيين بعلم الإنسان بهذا الموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (6) دور الروائح في النفور والإنجذاب
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (7) تفادي الروائح الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (8) رائحة الأزهار وهويّة شميّة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (9) إدارة الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (10) إدارة الإنطباع الحسي متابعة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (11) متابعة الحديث حول الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (12) نهاية الحديث حول الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (14) مواقف فلاسفة وأخصائيين إجتماعيين من الموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (15) مواقف قديمة داعمة للموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (16) معاني وتصنيفات الروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (17) العلاقة بين الشمّ والروائح والذاكرة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (18) كيفية بناء التقييم الشميّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (19) حاسة الشمّ والأغذية والتذوُّق
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (20) الرمزية الشميّة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (21) تاريخ وسياسة حاسة الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (22) الشمّ والروائح والتقسيم الطبقيّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (23) حاسة الشمّ والروائح والتقسيم الجندريّ الجنسيّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (24) الروائح والعنصرية
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (25) عوالم حسيّة مختلفة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (26) الروائح والشمّ في الطبّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (27) أهمية بحث علم الإجتماع للروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (28) الروائح والهويّة وخسارة القدرة على الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (29) رائحة الفم (النَفَسْ) الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (30) رائحة الأقدام الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (31) جورج زيميل وحاسة الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (32) روائح المدن
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (33) العلاقة بين حاسة الشم والروائح واللغات
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (34) الروائح في العمل التجاري
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (35) الأديان الإبراهيمية والروائح والشمّ
No comments:
Post a Comment