Wednesday, July 9, 2025

Sociology of smell and Odours (15) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

 

في الجزئين الأخيرين، جرى الحديث حول مواقف فلسفية وعلمية، قديمة ومعاصرة، مناهضة لحاسة الشمّ والوائح. 

سؤال: هل إتسمت جميع المواقف الفلسفية والعلمية، القديمة والمعاصرة، بالسلبيّة تجاه هذا الموضوع؟

بالتأكيد لا، ففي هذا الجزء، سيجري الحديث حول مواقف إستثنائيّة إيجابيّة، قديمة ومعاصرة، فلسفية وعلمية، من حاسة الشمّ والروائح: 

دشّن أبقراط ما يسمى بالطب الرصدي، المعروف الآن باسم الطب المُسند بالدليل.

فقد جلس إلى جانب المريض في سريره وإعتمد العقل والمنهج الإستقرائي للكشف عن سبب الأمراض الجسدية. في ذاك الوقت، شكَّلَ الطب نشاطاً إنسانياً وفناً وجسماً معرفياً وعلماً، فقد إشتهر الأطباء الأوائل في الغرب بإسم الأبقراطيين وقد آمنوا بأهمية التشخيص قبل وصف العلاج. بدلاً من اللجوء إلى الآلهة لعلاج الأجساد والأرواح، استخدم هؤلاء الأطباء الأوائل العقل والملاحظة لفهم الطبيعة وتحديد الأسباب والتوصية بالعلاج بناءاً على ما رأوه وشمُّوه. بدت معرفتهم تجريبية وعملية وملموسة. 

في ظروف معينة، أمكنهم تفسير بعض الروائح على أنها علامات لظهور المرض، وقد إستعمل بعض الأطباء هذا الإكتشاف كأدوات تشخيصية وإنذارية. لم يرَ الأطباء، ولم يتحسسوا، المريض فقط، بل شمُّوا رائحته على وجه الخصوص، وبمساعدة أنوفهم، تمكنوا من تحديد ما عانى المريض منه وكيف سيتطور مرضه. 

ثيوفراستوس هو فيلسوف وعالم نبات يوناني قد عاش خلال القرن الثالث قبل الميلاد، هو تلميذ لأفلاطون وأرسطو. كتب عن الشيخوخة والعفوية والحسد والعَرَق والنيازك والسِكِر والروائح الكريهة بين العديد من الموضوعات الأخرى في عمل صغير معروف باسم دي أودوريبوس. وقد وصف فيه علاجات محددة لإزالة إلتهابات الجروح ذات الرائحة الكريهة. أحد المركبات التي أوصى بإستخدامها هو عطر الميغاليون المصنوع من لحاء شجرة عطرية والقرفة والمر. "لاحظ بأنّ هناك بعض العطور المتمتعة برائحة أفضل خلال اليوم الثاني، أي إثر تبخُّر مكوناتها الثقيلة". حتى العصور الوسطى، إعتبروا كتاب  دي أودوريبوس النص الأساسي في صناعة العطور. 

بحسب الطبيب جالينوس البيرغاموني (مولود بمدينة برغامون، الواقع اليوم في تركيا بالقرب من بحر إيجه)، الذي عاش خلال القرن الثاني الميلادي، حاسة الشم عبارة عن حاسة متفوقة بسبب إتصال فتحتي الأنف مباشرة بالدماغ، حيث تصل المعلومات دون الحاجة إلى عصب حسي وسيط. شكَّلَ البول أو البراز كريهي الرائحة – إلى حدّ زائد عن الحدّ - علامةً على تعفن أخلاط الجسم. 

إعتبر الأطباء القدماء أن مقاومة الروائح العفنة الناتجة عن التحلًّل الجسدي بالعطور الطيبة قد خففت من حدة الجرح. فعلى سبيل المثال، إعتقدوا أن رائحة التفاح قد قلَّلَ من آثار السموم. رؤوا أن الرائحة القوية للملفوف المسلوق قد خففت آلام الصداع1. 

ما بحثه ماركس حول الحواس ليس له صلة بما بحثه فلاسفة آخرون. فهو لا يتحدث بالتفصيل عنها. بالتالي، هو لا يدخل بنقاش تصنيف الحواس، سواء كانت جيدة أو مُستهجنة، على المستوى الأخلاقيّ، ولا ينشغل بأهميتها المعرفية ولا بتراتبيتها. بالنسبة لماركس، قضيّة حيوانيّة وبشرية الحواس، التي شغلت المفكرين السابقين، أمر غير بارز ولا هامّ. يرى ماركس بأنّ لجميع الحواس ذات الرتبة والمرتبة أي متساوية من جميع النواحي. ما يُميِزُ بين أفراد الجماعة، على مستوى الحواس، هو نوعيّة إدراكهم الحسيّ؛ فعلياً، ويعتمد هذا على الظروف المادية الحقيقية الحياتية وعلى الوضع الإجتماعي، أي بالنهاية، على الوضع في عملية الإنتاج الرأسمالي. ويعني هذا، تحديداً، بالنسبة لماركس: الإرتباط أو عدمه بظروف العمل القاسية. 

مقارنة بموقف كانط وهيغل الجذريّ، وموقف ماركس التسووي، من حاسة الشم، يُعيد نيتشه تقييم الحواس، بالعموم، وحاسة الشمّ والأنف على نحو خاص. يتحول تقييم حاسة الشمّ، هنا، إلى أداة نقدية للفلسفة المثالية وللدين، حيث يحتقر كلاهما الجسد والحيوان والغرائز، فبرأي نيتشه، يُصرِّحون بأفكار مُزيَّفة حول "العقل الخالص" و"روحانية مُطلقة" و"المعرفة بذاتها" ويعتبرونها منفصلة عن الجسد. الحواس ليست لاأخلاقيّة بالنسبة للفلاسفة المثاليين فقط، بل هي تخدع الإنسان بما يخص ماهيّة الواقع. فبالنسبة لهذه النظرة الفلسفية: 

"التحرُّر من خداع الحواس. إرفض كل ما تُقدِّمه الحواس، كُن فيلسوفاً، كن مومياء، مَثِّل التوحيد الرتيب بتقليد جنائزيّ! بعيداً، قبل أيّ وكل شيء، عن الجسد، هي فكرة مثيرة للشفقة تطال الحواس!". 

لكن، يُهاجمُ نيتشه هذا العداء للجسد، بل يرفض التعامل معه كعدوّ. علاوة على ذلك، يعتبر نيتشه بأنّ الوعي (الإدراك) والعقل والفكر ما هي إلا طبقة سطحية خادمة للإرادة: "أي "الروح الخالصة" عبارة عن غباء خالص: إن نأخذ الجهاز العصبي والحواس بعين الإعتبار، فنحن في الطريق الصحيح ولا شيء أكثر من هذا!". 

في هذا السياق، إعتبر نيتشه بأنّ المسيحية قد تلاعبت بالقيم الطبيعية. فهي مناهضة للطبيعة بإمتياز، لأنها، ومنذ بداية ظهورها، بدت العدو اللدود للطبيعة والحواس والشهوانية والفرح: 

"فقط، بعد إبتكار مُصطلح "الطبيعة" كمفهوم مُضاد لمُصطلح "الله"، ولهذا، جرى إستهجان هذا المُصطلح –يجد هذا العالم الخيالي جذوره من خلال كره كل ما هو طبيعي (أي الواقع!)، هو تعبير واضح عن الإنزعاج من الواقع. غلبة مشاعر الإستياء على مشاعر المتعة وراء الأخلاق والدين الوهميين: تؤدي هذه الغلبة إلى الوصول نحو الدرك الأسفل". 

بحسب نيتشه، يسمح الجهاز الإدراكي المعرفي البشريّ بالتجريد والتبسيط، فقط، لأنّه غير مُهيّأ لأجل "المعرفة". في الغالب، هناك مبالغة بتقدير دور الوعي لأنّ غالبية الأشياء تحصل بلا وعي وتُعتبر الغريزة "الأذكى بين جميع أنواع الذكاء المُكتشفة حتى الآن". بالنسبة لنيتشه، ترتبط المعرفة بالغريزة، أي بالنشاط الحسي، بطريقة مميزة: 

"اليوم، لدينا الكثير من العلوم رغم أننا قرَّرنا قبول شهادات الحواس، علماً أن الباقي ما هو إلّا إجهاض ولا يُعتبر علماً للآن: أقصد ما وراء الطبيعة واللاهوت والتحليل النفسي ونظرية المعرفة". 

علاوة على ذلك، يبدو أن الحواس الطبيعية والحيوانية أكثر تُساهم بتوفير القيم المعرفية الأهمّ. يرى نيتشه بأنّ هناك إرتباط قويّ بين حاسة الشمّ والمعرفة على ما يبدو، لدرجة إختياره الأنف كأداة بحث علمي دقيقة: 

"وأيّة أدوات مُلاحظة دقيقة بحواسنا! الأنف على سبيل المثال، الذي لم يتحدث أيُّ فيلسوف عنه بإجلال وإمتنان، هو حتى الآن الأداة الأكثر حساسية وبجهوزية تمكنه من إكتشاف أدنى الفروقات بالحركة والتي لا يمكن للمطياف إكتشافها". 

بالنسبة لنيتشه، حاسة الشمّ هي حاسة الحقيقة، لأنها لا تأتي من الفكر المنفصل عن الواقع الروحاني المُخادع، بل ترد من مصادر الغريزة الحيوانية الطبيعية الموثوقة. الأنف هو عضو المعرفة البديهية للواقع، لأنّ حاسة الشمّ تتجاوز الوهم والمنطق البارد "للعلم لرسمي وتعليم الرموز: مثل المنطق والمنطق المطبق على الرياضيات، الذي نشأ من خلال الصراع ضد الغريزة. حيث لا أثر للواقع فيها، ولا حتى كمشكلة". 

أخيراً، يُوضِّحُ موقف هلموت بلينسر إلى أيّ مدى يمكن إعتبار وجهتي نظر ماركس ونيتشه إستثناءاً في هذا السياق نظراً للاحكام المسبقة المطلقة على مدار قرون. ففي كتابه "أنتروبولوجيا الحواس"، يؤكد بلينسر، في المقام الأوّل، على: "الإنشغال بالحواس لمقاصد فلسفية، اليوم، غير قائم في حقل الإهتمامات الفلسفية". بالنسبة له، الأسباب جليَّة: "لا إعتراض على فكرة أنّ الحواس مصدراً للمعرفة"، كذلك، "ليس هناك شكّ بقدرة الأعضاء المسؤولة عن عمل هذه الحواس". يُضاف إلى هذا التأكيد المُقارنة المجراة من قبل فلاسفة آخرين مع عالم الحيوان: 

 "نعرف هذه الأعضاء لدى الحيوان والإنسان، فهي تخدم الكائن الحيّ بإعلامه عن قضايا بيئية محيطة وعن وضعه وماهية وجوده وأحاسيسه"2. 

في دراساتها حول الرائحة وحاسة الشمّ، تُشير الأخصائية بعلم الإنسان كونستانس كلاسن (1993، 1994) إلى كونية تنتظم فيها مجتمعات العالم ربطاً بالمفاهيم الشميّة. تستخدم مجتمعات ماقبل الحداثة كما المجتمعات الحديثة الروائح في طقوس شمية وكتمثيل، جرى التعبير عنها عبر الدين وما يخص الجسد أو بوسائل أخرى. تميل الكونية الشميّة لتكون أكثر تنوعاً وأكثر تفرُّداً وأقلّ ظهوراً في المجتمعات الحديثة (العلمانية) مقارنة بثقافات ما قبل الحداثة. رغم هذا، وبحسب كلاسن، يبدو أنّ تصوُّر "الآخر" من خلال الرائحة قد شكّل نمطاً سائداً في ثقافات مختلفة3. 

تحتشد الروائح في عقلنا وتنقلنا إلى طفولتنا ومراهقتنا، أو ربما تهزّ شباك النسيان في أعمق أعماق ذاكرتنا. فهم حاسة الشمّ، فهم كيفية عمل هذا الجهاز الحسي، يزودنا بعناصر كبرى لأجل فهم كيفية عمل عقلنا. لقد أدهش هذا الجهاز الحسي الكثيرين من الفلاسفة والباحثين والعلماء، الذين قد تحدثوا عنه ودرسوه وفق إمكاناتهم وإدراكاتهم. على سبيل المثال لا الحصر، في حقل الأدبيات الحديثة، حضر موضوع الروائح والعبير في رواية العطر للألماني زوسكينت4. 


المصادر 

1. Federico Kukso, Odorama; Historia cultural del olor. Taurus. 2019 

2. Die soziale Konstruktion olfaktorischer Wahrnehmung. Eine Soziologie des Geruchs. Dissertation zur Erlangung des akademischen Grades des Doktors der Sozialwissenschaften an der Universität Konstanz. Vorgelegt von Jürgen Raab im September 1998 

3. Cosmologies, Structuralism, and the Sociology of Smell. by Marcello Aspria, November 7, 2008. © 2009 ScentedPages.com 

4. Las bases moleculares para el reconocimiento olfatorio, Rosalinda Guevara Guzmán

https://www.revistas.unam.mx/index.php/req/article/view/66137 

للإطلاع على مواضيع أخرى ذات صلة

 (1) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

(2) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

(3) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

(4) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

(5) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

(6) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

(7) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

(8) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

(9) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

(10) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

(11) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

(12) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

(13) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

(14) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

(16) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

No comments:

Post a Comment