2025/09/09

Sociology of smell and Odours (32) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

في هذا الجزء، سنتحدَّث حول الروائح في يوميات المدن.

درس كثيرون كيفية تحسين العناصر البصرية لتصميم المدينة، لكن، قد درس قليلون روائحها.

عندما نفكر في روائح المدينة، عادةً، نفكر في سياق سلبي – بروائح القمامة أو الأدخنة المتصاعدة من أماكن متنوعة.

 لكن، لا يُعتبر هذا صحيحاً، كما يقول الباحثون.

فروائح المدينة أكثر تنوعًا مما يُعتقَد، ويمكن أن تلعب دوراً إيجابياً في الحياة الحضرية1. 

هناك نمو في الأدبيات المتعلقة بتصورات الأماكن من خلال الروائح خلال العقد الأخير.

تحضر الروائح في تجارب الناس اليومية في المدن بشكل لا يمكن تفاديه، حيث تصدر عن الأنشطة البشرية ومواد البناء والمناظر الطبيعية، وتشكل عالماً غير مرئي من حولنا.

 إن الخبرات اليومية حول الروائح، مثل روائح الخبز الطازج من المخبز في الطريق إلى محطة الحافلات في الصباح؛ ورائحة الجعة والسجائر من الحانات في طريق العودة إلى المنزل بعد العمل، تثري تجاربنا وتجعلنا نعرف بشكل أفضل الأماكن التي نعيش فيها.

كما اقترحت سيسيل تولاس، توفِّرُ دراسة الروائح الحضرية بعداً إضافياً لفهمنا للمدن، وتثري تجربتنا الحسية وتوفر مدخلات للتصميم الحضري والعمارة للتواصل وفهم بُعد غير مرئيّ من المدينة2.

تقول مونيكا مونسيرات ديغين، الأخصائيّة بعلم الإجتماع الثقافي الحضري في جامعة برونيل لندن، الآتي: 

"التصورات الحسية ليست محايدة أو بيولوجية ببساطة؛ فما نعتبره شيئاً ممتعاً أو كريهاً، هو أمر قد تشكَّلَ ثقافياً وإجتماعياً".

 يستعين المخططون المدنيون، في كل من لندن وبرشلونة، بأبحاثها حول تصورات الأماكن العامة وكيف أن "التسلسلات الهرمية الحسية"، كما تشير إليها، تشمل أو تستبعد مجموعات مختلفة من الناس. 

تستشهد ديغين بمثال حول أحد أحياء لندن، حيث أزيحت المطاعم الرخيصة، التي شكَّلت أماكن إستراحة للشباب المحليين، وحلّ محلها مقاهي عصرية. في هذا الصدد، تقول: 

 "صدرت رائحة شبيهة برائحة الدجاج المقلي سابقاً"، لكن، إعتبر السكان الجُدُد أنّ تلك الرائحة منفرة، "الآن، رائحة الحيّ شبيهة برائحة الكابوتشينو"3. 

من الأسئلة الهامّة الممكن طرحها حول هذا الموضوع، نجد: 

على أي حال، إذا أردتَ خلق رائحة مدينة، كيف ستفعل ذلك؟

ومن أين ترغب بأن  تأتيك الرسائل الشمية؟4 

ما يُثير الدهشة في الأدبيات اليونانية القديمة – على سبيل المثال، في قصائد هوميروس – لا يُشار إلى روائح المدن الكريهة، والتي بحسب بول فور، يمكن أن تُعزى إلى الأسباب التالية: 

"نهت الحشمة عن الحديث حول الغائط والروائح الكريهة. ففي المدن التي قلَّت النظافة فيها، إنتشرت الروائح الكريهة في كل الأرجاء، لهذا، نجد أفضلية بتوصيف الهواء النقي على قمة جبل الأولمب، أي بمنطقتين هما الإيدا والبيليون، حيث تسكن الآلهة، التي تتغذى على الأطعمة الشهية ورحيق الأزهار. فقد إهتمَّ هوميروس وأسلافه بروائح المدن الزكيّة الممتعة، لا بتلك الكريهة المُنفِّرة".

إعتباراً من القرن السادس عشر، إزداد عدد السكّان بصورة ملحوظة في عدد من المدن الأوروبيّة، وهو ما أعطى المجال لظهور نوع جديد من المدن: 

المدن ذات عدد سكّان بمئات الآلاف، قد ظهرت في إيطاليا أولاً (البندقية ونابولي وروما)، ثُمّ في هولنده (أنتوربين وأمستردام) وأخيراً في فرنسا (باريس) وإنكلترا (لندن)، فظهرت المراكز السياسية والثقافية والصناعية وهو ما تركز من خلال عملية التطور الإجتماعي والتقني. إعتباراً من تلك اللحظة، باتت هذه المدن مراكز للمآسي والتلوُّث: الضيق والقذارة والإكتظاظ وسوء التهوية ورائحة مياه الصرف الصحي والتربة المتشربة بالبصاق والبول والبراز وهو ما حول تلك الاماكن إلى ما يشبه المقابر الجماعية، حيث تراكم البشر وإمتزج زفيرهم وعرقهم وروائحهم ببعضها البعض وبالهواء الذي أضحى صعب الإحتمال. 

إعتبروا الروائح التي صدرت بجميع الاماكن الضيِّقة المأهولة بأشخاص – أحياء أو موتى – خطرة علاوة على كونها مزعجة وكريهة. جرّاء تراكم الإصدارات الروائحية الجسدية بصورة لا يمكن ضبطها، حمل هذا الجوّ الخانق معنى الإحتضار والموت وهو ما رمزت الرائحة إليه فعلياً. 

يصف كوربين، بدقّة، كيف بدؤوا خلال القرن الثامن عشر بالتعامل العقلاني مع الروائح على المستوى العلميّ: ففي المقام الأوّل، حاولوا خلق لغة مرتبطة بالروائح تسمح بتقييم وتسمية الخلائط. لاحقاً، تُحدَّد مراحل وإيقاعات التحلُّل، بشكل أساسيّ، بحسب فئات الروائح.

هكذا، تأسَّسَ فرع علمي هو الأوسمولوجيا المتخصص بدراسة حاسة الشمّ والروائح والذي تحوَّلَ إلى أداة حاسمة في إدراك وكشف المخاطر الروائحية. فظهر الإهتمام الكبير، بالإضافة إلى الروائح الصادرة عن الأشخاص، بروائح جدران المنازل وبوساخة الشوارع وتراكمات الفضلات على ضفاف الانهار والآبار السوداء بضواحي باريس. بالتالي، وجب على الإصلاحات التي إعتمدوها "من خلال تبني إستراتيجيات لإزالة الروائح الكريهة" أن تحدث على مستويات عديدة. وجب على النظافة العامة إزالة مصادر الروائح الكريهة الفظيعة والعمل على تحسين جريان الهواء وتنقيته. 

إكتسبَ تفادي ظهور الروائح الكريهة المزيد من الأهميّة.

من أوائل التدابير التي إتخذوها نقل المقابر وحظائر الحيوانات إلى خارج المدن. بالإضافة إلى الإجراءات المعمارية التصميمية – مثل إستعمال الفولاذ والزجاج – لكي يتعرض داخل المباني للشمس وللتهوية. تمثل الهدف بالتحكُّم بتوزيع الهواء داخل الغرف. لهذا، قدَّموا تصاميماً لأجهزة تهوية ومراوح. بدت كلها كتقنيات مثالية لبيئة مضبوطة على مستوى  القياسات والإجراءات ضمن المجال الحيويّ؛ هو حلم بالحصول على الآلة المثالية الهادفة لتحقيق الأمن والامان صحياً. تحولت النظافة العامة إلى نقطة مركزية وبديهية في سياسات الإسكان: فقد تأسست عملية إنشاء أبنية ذات مزايا صحيّة عامة خلال القرن الثامن عشر على تصنيفين: هوائيّ جويّ ومكانيّ، فقد نفَّذوا حسابات علمية: 

 "لتحديد حجم الهواء النظيف اللازم للشخص لدى تواجده في مكان معين بحيث يتفادى تأثير الهواء المُتلوّث". 

سعى علم النظافة إلى عزل "الأماكن المتلوثة" أو تخليصها من "الأدخنة الضارة"، أي "تلك الأبخرة المتصاعدة السامة المُسبِّبة للأمراض".

لكن، وجب العمل على تهوية الشوارع والساحات أيضاً. وقد حلم البعض بوضع أجهزة تهوية في هذه الأماكن حتّى. 

خلال زمن قصير، بدا إستعمال قرع الأجراس وإشعال النار فعّالاً لتحقيق هذا الأمر. مع ذلك، ظهرت مرحلة جديدة واعدة أكثر "ثورة لإلغاء الروائح الكريهة":

 إزالة القمامة وأنواع النفايات المختلفة وتخصيص أماكن للتغوُّط. فلم يعد مسموحاً رمي القمامة في الشوارع والأماكن العامة ولا التبوُّل ولا المياه العادمة؛ حتى الأبخرة المتصاعدة خلال تفريغ الآبار السوداء (المجارير) قد تنامى رفضها. ألزموا الأشخاص ببناء المراحيض في الأبنية الجديدة. بذلوا كل هذه الجهود للتخلُّص من الروائح الكريهة والتي تكللت، أخيراً، بإنشاء شبكات تصريف صحية ذات فعالية أكبر. والتي ترافقت جميعاً برقابة صارمة، تمثلت غايتها بتثقيف وتربية الأفراد ليتصرفوا بما يساعد على تعزيز النظافة العامة والتخلُّص من الروائح الكريهة5.

 

شمُّ زوايا العالم 

قد تنقلنا الرائحة لمسافات تبلغ آلاف الكيلومترات. تجعلنا حاسة الشمّ نُسافر عبر الزمكان. نتحدث عن مجموعة من الخبرات التي يجب على كل مسافر عيشها لكي يتمكن من الإبتعاد عن الأفكار والإحساس المرتبطين بالسفر من خلال وجهة نظر أخرى: 

أي عبر حاسة الشمّ فقط.

حين تدخل إلى أيّة مدينة عربيّة، ستكتشف وجود متاجر صغيرة فيها أنواع كثيرة من البهارات الخاصة بأنواع محددة من الأطباق المختلفة التي يمكنك تخيلها. روائح هذه البهارات مميزة لدرجة أنّه يصعب شمّها خارج البلدان العربيّة6. 

ملحوظة: في الواقع، مصدر غالبية التوابل هو الهند. تأتي شهرة العرب، وقبلهم الفينيقيين، من نقلهم لها إلى أوروبة وتجارتهم بها منذ قديم الزمان.

 يتبع 

المصادر

1.   Beautiful maps of what our cities actually smell like, By Ana Swanson

https://www.washingtonpost.com/news/wonk/wp/2015/06/07/maps-what-your-city-smells-like/

2. Xiao, J., Tait, M., & Kang, J. (2018). A perceptual model of smellscape pleasantness. Cities. In press. White Rose Research Online URL for this paper:

 http://eprints.whiterose.ac.uk/130752/


3. Why sounds and smells are as vital to cities as the sights, By Jennifer Hattamarchive pageAbby Ivory-Ganja

https://www.technologyreview.com/2022/06/14/1053771/sounds-smells-vital-to-cities-as-sights/

4.   Scents, sensibility and the smell of a city, by Tania Leimbach, PhD researcher, University of Technology Sydney  

https://theconversation.com/scents-sensibility-and-the-smell-of-a-city-71271

5. Die soziale Konstruktion olfaktorischer Wahrnehmung. Eine Soziologie des Geruchs. Dissertation zur Erlangung des akademischen Grades des Doktors der Sozialwissenschaften an der Universität Konstanz. Vorgelegt von Jürgen Raab im September 1998

Faure, Paul: Magie der Düfte. Eine Kulturgeschichte der Wohlgerüche. Von den Pharaonen zu den Römern. Deutscher Taschenbuch Verlag, München: 1993 (1987).

6. Oliendo los rincones del mundo, Por: Claudia, Beatriz, Alicia y María. Su enlace no funciona

https://loscincosentidosdelviaje.wordpress.com/2018/06/19/oliendo-los-rincones-del-mundo/#more-606

 للإطلاع على مواضيع أخرى ذات صلة

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (1) تعريف علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (2) عدم الإهتمام بهذا العلم

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (3) أهمية الروائح

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (4) آراء أخصائيين بعلم الإنسان بهذا الموضوع

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (6) دور الروائح في النفور والإنجذاب

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (7) تفادي الروائح الكريهة

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (8) رائحة الأزهار وهويّة شميّة

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (9) إدارة الإنطباع الحسي

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (10) إدارة الإنطباع الحسي متابعة

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (11) متابعة الحديث حول الإنطباع الحسي

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (12) نهاية الحديث حول الإنطباع الحسي

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (13) مناهضة الحواس، سيما حاسة الشمّ

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (14) مواقف فلاسفة وأخصائيين إجتماعيين من الموضوع

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (15) مواقف قديمة داعمة للموضوع

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (16) معاني وتصنيفات الروائح

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (17) العلاقة بين الشمّ والروائح والذاكرة

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (18) كيفية بناء التقييم الشميّ 

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (19) حاسة الشمّ والأغذية والتذوُّق

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (20) الرمزية الشميّة

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (21) تاريخ وسياسة حاسة الشمّ

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (22) الشمّ والروائح والتقسيم الطبقيّ

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (23) حاسة الشمّ والروائح والتقسيم الجندريّ الجنسيّ

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (24) الروائح والعنصرية

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (25) عوالم حسيّة مختلفة

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (26) الروائح والشمّ في الطبّ

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (27) أهمية بحث علم الإجتماع للروائح

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (28) الروائح والهويّة وخسارة القدرة على الشمّ

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (29) رائحة الفم (النَفَسْ) الكريهة

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (30) رائحة الأقدام الكريهة 

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (31) جورج زيميل وحاسة الشمّ

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (33) العلاقة بين حاسة الشم والروائح واللغات

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (34) الروائح في العمل التجاري

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (35) الأديان الإبراهيمية والروائح والشمّ

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (36) الروائح البيئيّة

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (37) ضعف حاسة الشم لدى البشر؟!

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (38) مفهوم رائحة الأجنبيّ

علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (39) الفنّ الشميّ أو الروائحيّ

No comments: