في هذا الجزء، سنتطرَّق لدور حاسة الشمّ والروائح في صنع التمايز الطبقيّ وصنع الفوارق بين الأغنياء والفقراء أو بين الرأسماليين والعمال.
يُكتسَبُ البُعد الإجتماعي للرائحة من خلال الخطابات المهيمنة ضمن فضاء وإطار تاريخي معين - منذ الطفولة، نتعلم أيّ الروائح هي لطيفة وأيها تُعتبر كريهة. وهكذا، تصبح الرائحة مؤشراً على موقع الفرد في التسلسل الهرمي الإجتماعي. تربط الروائح بين الأفراد (وتفصلهم) على الفور، بعيداً عن الأشكال المعممة والتقليدية للوعي أو الأخلاق أو الجماليات1.
شكَّلت الرائحة مؤشراً مهماً للمكانة في المجتمعات القديمة. فخصص التبغ المنكّه أو المُعطّر للنبلاء والتجار والمحاربين فقط، على سبيل المثال لا الحصر.
منتصف القرن الثامن عشر، حظي الإستحمام في الماء، الذي بدا نادراً حتى ذلك الحين، في القبول مع إتخاذ بعض الإحتياطات، من قبيل:
التطهر قبل دخول الحمام والراحة لحماية الجسم من التعب بعده.
وتلاشت المخاوف من انفتاح المسام بسبب الماء وتسلل الهواء السام تدريجياً مع إختفاء الأوبئة الكبيرة.
وهكذا، عاد الاستحمام إلى الطبقات الثرية كممارسة، قد اعتبرت ترفاً وعلامة من علامات التكبُّر، وبدا الإستحمام كضرورة صحية أكثر من كونه أمراً ممتعاً. هو إنتقال من النظافة القائمة على المظاهر إلى النظافة القائمة على النظافة الجسدية، التي تتحقق من خلال الماء والمتمثلة في غياب الروائح الكريهة.
يقول دبليو سومرست موغام:
"لا ألوم العامل على الرائحة الكريهة، لكن، رائحته كريهة فعلاً. ويُصعِّبُ هذا الإختلاط بالناس من ذوي الأنوف الحساسة. يُقسِّمُ حمام الصباح الطبقات بشكل فعّال أكثر من تقسيمهم بناءاً على المولد أو الثروة أو التعليم".
"لم يكن مهمًا أن يُقال لشخص من الطبقة الوسطى أن العمال جاهلين أو كسالى أو سكارى أو غير شرفاء، بل تمثَّلَ الشر الحقيقي بالقول بأنّ العمال قذرين بطبيعتهم: فقد شكَّلَ النفور الجسدي حاجزاً لا يمكن التغلب عليه أو تخطيه"2.
في تشريحه لجذور الكراهية الطبقية، حدد الكاتب الإنكليزي جورج أورويل أصولها في التعليم: كيف أن ما يسمى بـ "التقدير الشمي"، أي ما نحدده على أنه "رائحة كريهة" - أو نقيضها "رائحة طيبة" - هو في الواقع عبارة عن بناء ثقافي.
ففي كتابه "الطريق إلى رصيف ويغان"، يورد جورج أورويل الآتي:
"وهنا نصل إلى السر الحقيقي للتمييز الطبقي في الغرب، إلى السبب الحقيقي الذي يجعل الأوروبي من أصل برجوازي، حتى لو سمَّى نفسه شيوعياً، لا يستطيع أن يعتبر العامل مساوياً له دون بذله للكثير من الجهود. ويمكن تلخيص الأمر في أربع كلمات مخيفة تبتعد الناس اليوم عن نطقها، ولكنها استخدمت بصورة عادية وعلى نطاق واسع خلال طفولتي. الكلمات الأربعة، هي: "رائحة الطبقات الدنيا كريهة""3.
بحسب بول أوستر:
"الشيء الأوضح بما يخصّ الرائحة الكريهة، هو كما لو أن الفقر ليس غياباً للمال فقط، بل هو عبارة عن إحساس جسدي، رائحة كريهة تملأ رأسك وتجعل من المستحيل التفكير. كنت أحبس أنفاسي، كلما دخلت إلى مبنى مع والدي، كي لا تؤذيني الرائحة"4.
سواء الآن، أو تاريخيًا، يمكن للطريقة التي نشم بها رائحتنا أن تشير إلى الطبقة الإجتماعية أكثر من أي شيء آخر مباشرة. حيث تلتصق الرائحة بنا. نرتديها كجلد ثانٍ يكفي لإثارة إشمئزاز الناس جسدياً. إن إعتبارنا كريهي الرائحة هو أكثر أشكال النبذ الإجتماعي إذلالاً5.
تبدأ حاسة الشمّ بإكتساب الأهمية الإجتماعية عندما ترتبط بقضايا التمايز الإجتماعي، أي بالرفض، سيما التمييز والتشهير الإجتماعي على مستوى الأفراد والطبقات والأعراق والأمم وبشكل مستقلّ عن التشكيلات الأسرية. حسناً، يتضح بأنّ "القضية الإجتماعية ليس قضيّة أخلاقية فقط، بل هي ثضيّة أنفيّة أيضاً". على سبيل المثال، في العلاقة التالية:
"لم يحصل الإتصال الشخصي بين المتعلمين والعمال، الذي نُوقِشَ كثيراً لتحقيق التطور الإجتماعي، إقتراب بين عالمين قد بذل المتعلمون الكثير من الجهود لإنجازه، بسبب عدم القدرة على تجاوز المُعيقات الشميّة".
توضح ملاحظات جورج زيمل الخاصة بحاسة الشمّ، رغم قلتها وسطحيتها وعدم تنظيمها جيداً، دور حاسة الشمّ في التمايز الإجتماعي والفصل بالإضافة إلى إظهار الطابع الإجتماعي بحقبة معينة وفق معطيات التشخيص الزمني. ضمن هذا الإطار، تُوضَعُ أسئلة محددة، من قبيل:
ما هي المؤثرات التي تخلق فروقات في الثقافة ونمط الحياة على إدراك وخلق
الروائح؟
ما هي العلاقة بين نمط الحياة والروائح؟
ما هي التابوات (المُحرمات) الحاضرة في نطاق التحكُّم والتعامل بالرائحة؟
إلى أيّ مدى تًستخدم الروائح الكريهة كسبب لتفادي التعامل أو التفاعل مع الآخرين؟6
يتبع
المصادر
1. The Construction
of an Olfactory Other, Ruxandra Păduraru
https://theanthro.art/the-construction-of-an-olfactory-other/
2. Federico Kukso, Odorama; Historia cultural del olor. Taurus. 2019
3. GEORGE ORWELL, The Road to Wigan Pier (1937)
4. Paul Auster, The Invention of Solitude (1982)
5. Do You Smell Expensive? Dressing like we’re rich is one thing but smelling like it is far more complex. Viola Levy explores.
6. Die soziale Konstruktion olfaktorischer
Wahrnehmung. Eine Soziologie des Geruchs. Dissertation zur Erlangung des
akademischen Grades des Doktors der Sozialwissenschaften an der Universität
Konstanz. Vorgelegt von Jürgen Raab im September 1998
للإطلاع على مواضيع أخرى ذات صلة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (1) تعريف علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (2) عدم الإهتمام بهذا العلم
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (3) أهمية الروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (4) آراء أخصائيين بعلم الإنسان بهذا الموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (6) دور الروائح في النفور والإنجذاب
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (7) تفادي الروائح الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (8) رائحة الأزهار وهويّة شميّة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (9) إدارة الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (10) إدارة الإنطباع الحسي متابعة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (11) متابعة الحديث حول الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (12) نهاية الحديث حول الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (13) مناهضة الحواس، سيما حاسة الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (14) مواقف فلاسفة وأخصائيين إجتماعيين من الموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (15) مواقف قديمة داعمة للموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (16) معاني وتصنيفات الروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (17) العلاقة بين الشمّ والروائح والذاكرة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (18) كيفية بناء التقييم الشميّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (19) حاسة الشمّ والأغذية والتذوُّق
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (20) الرمزية الشميّة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (21) تاريخ وسياسة حاسة الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (23) حاسة الشمّ والروائح والتقسيم الجندريّ الجنسيّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (24) الروائح والعنصرية
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (25) عوالم حسيّة مختلفة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (26) الروائح والشمّ في الطبّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (27) أهمية بحث علم الإجتماع للروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (28) الروائح والهويّة وخسارة القدرة على الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (29) رائحة الفم (النَفَسْ) الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (30) رائحة الأقدام الكريهة
No comments:
Post a Comment