1. ما هو البخُّور؟
وفق أبسط تعريفاته، البخُّور عبارة عن مادة نباتيّة تُحرَق لتحصيل خصائصها الروائحيّة العطرية الزكيّة.
بالتالي، هناك أنواع كثيرة للبخُّور، بالإضافة إلى أشكال متنوعة له، مثل:
عيدان؛ لوالب أو ملفوفات؛ مخاريط؛ مساحيق ومواد نباتيّة خام.
2. نبذة تاريخيّة عامّة
في رقيمات قصيدة جلجامش - أولى الملاحم العظيمة في تاريخ الأدب العالمي، والتي كتبت حوالي عام 2000 قبل الميلاد – يُنقَذُ أوتنابشتيم من الطوفان العظيم، الذي أمرت الآلهة بإحداثه. لدى إنحسار المياه، يسعى لتهدئة الغضب الإلهي ساكباً الخمر وحارقاً الأخشاب العطرية مثل القصب والأرز والآس على قمة جبل. وقد رحبت الآلهة بالرائحة العطرية فرحاً بالبشرية، وقد قررت الآلهة عدم تكرار العقاب.
ففي شرق المتوسط، منذ العام 4000 قبل الميلاد، مزجوا البخُّور مع الماء والزيت لأجل الحصول، للمرة الأولى، على دهون ومراهم وعطور جسدية. بحسب بقايا أثرية عديدة، فقد إشتغلت حضارات شرق المتوسط على تحضير هذه المواد الروائحية الفوّاحة.
وقد اتحد المصريون واليهود والبابليون واليونانيون والرومان والمسيحيون في ذات الورع العطريّ:
أي اللجوء إلى ممارسة إرضاء آلهتهم من خلال الروائح العطرية.
ربما تميزت الممارسات القربانية المتوسطية – وقد كانت هكذا قديماً دوماً – بالروائح التي قد تولدت عن ممارستها. فقد أُحرِقَ البخور على طول طريق الموكب الديني الطقسي، وفي الموقع الذي مورس الطقس به.
في ذات الوقت، لم يشكل بخور الأضاحي، بذاته فقط، مادة متحولة، بل امتلك القدرة على تغيير الشخص المُتكرِّس الذي يقدمها، أو حتى ينقله لدرجة استثنائية من التقوى والورع. فقد ناغمت روائحه الثابتة بين العقل وبين التقوى والعبادة قبل تقديم الأضاحي وبعده لفترة طويلة.
كذلك، جرى ربط الجمالية الممتازة لهيكل الإلاهة السوريّة (أتارجاتس) في مدينة هيرابوليس الفينيقية (منبج السوريّة حالياً) بعطور صادرة عن البخور:
وهي رائحة ميّزت المؤمن على نحو ثابت من وقتها.
رائحة زكيّة ترد (من ذاك الهيكل)، كما يقولون، فهي رائحة آتية من أرض العرب.
وعندما تقترب أنت من البعيد، فهي ترسل رائحة عذبة للغاية.
وعندما تبتعد أنت، فهي لا تتركك.
تحتجز ثيابك الرائحة لزمن طويل، وستتذكرها إلى الأبد!
امتلك البخور معاني متشابهة لدى عدد من الأديان في منطقة البحر المتوسط القديم.
بين الفلفل الأسود والبخٌّور
لا يتذكر أحد إسمه ولا نبرة صوته ولا حتى إن وُجِدَ أصلاً. يقول المؤرخ اليوناني بوسيدونيوس، بحدود العام 118 ق. م، أنقذوا شخصاً قادما من الهند من الغرق بالبحر الأحمر، ثم بسرية تامة، نقلوه إلى الإسكندرية، حيث تعتبر ثاني أهم مدينة عالمياً آنذاك، البوابة التي ربطت الشمال بالجنوب وحكمها الفرعون بطليموس الثامن الملقب فيسكون ("عظيم البطن").
لم يكن أمن وسريّة المنقول نزوةً، فقد أمكن لتعيس الحظّ هذا أن يشكل مفتاحاً لحلّ أحد أكبر الألغاز، التي شغلت عقول أكبر الطامعين الجشعين:
من أين أتت تلك المادة العجيبة القادرة على تعديل مذاق الطعام، بل ويمكنها تحييد نكهة الطعام المتعفن أو المتحلل، وفي أي تربة قد نبت ذلك الكنز العطري النادر والثمين المعروف باسم "الفلفل"؟
ربما عرف الشخص، الذي كان على وشك الغرق، السرّ. ولكن ما أن اقتيد إلى مصر حتى واجه مُتحدرو الإسكندر الأكبر حقيقة مخيبة للآمال: لم يعرف الهندي كلمة واحدة من اليونانية، اللغة الرسمية في ذلك الوقت وفي ذاك المكان. ومرت أسابيع وبدأ الرجل، الذي تعافى تدريجياً، في فهم من يرعاه. وكدليل على الإمتنان، كشف لهم السر، الذي لم يعرفه (ويحتفظ به) سوى الفينيقيين:
كيفية الوصول إلى الأراضي الغريبة في الهند.
أكثر الطرق إستخداماً هي طريق المرّ والبخُّور، التي دخلت في عمق شبه الجزيرة العربية؛ طريق الحرير، التي ربطت إيطاليا بشمال الصين؛ وطريق التوابل، التي وصلت إلى الصومال والهند وسيلان (سيريلانكا اليوم). كجهاز عصبيّ مركزيّ غير مرئي للعالم، بدأ بالإنتشار منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، قد ربط أوروبة وآسيا وأفريقيا، شرق وغرب وشمال وجنوب.
وكما قال المؤرخ البريطاني ويليام وودثورب تارن، بدت تجارة البخُّور كتجارة وديانة في آنٍ معاً. لم تكن هناك عبادة في العصور القديمة يمكن أن تحدث دون هذه المادة الراتنجية. المسؤولون عن تجارة ونقل المنتجات العطرية في شبه الجزيرة العربية، ذاك الوقت، هم أبناء السلالات القبلية المحلية.
نقلت قوافل السبئيين والمعينيين البضائع من مراكز الإنتاج في مدينة عدن في اليمن الحالية، حيث يُعتقد أن مملكة سبأ قد إستمرت حتى القرن الثالث قبل الميلاد. ومن هناك، كان اللبان - وهو الشكل الرئيسي للبخُّور في العالم القديم - والمرّ يُنقلان في قوافل الجمال على كثبان رملية يزيد ارتفاعها عن 300 متر المتعرضة لحرارة صحراء الربع الخالي الشديدة إلى شمال شبه الجزيرة، فتعطر شواطئ البحر الأحمر خلال تقدمها.
وقد ذكر بليني الأكبر أن الطريق قد تألف من خمس وستين مرحلة، قد مرَّ الذهب والعاج والقماش عبرها أيضاً، ونما حوالي خمسة وعشرين نوعاً مختلفاً من أشجار البخُّور في هذه المنطقة. استغرق العبور من أحد طرفي الطريق إلى الطرف الآخر إثنين وستين يوماً.
حُرِقَ البخور، الوارد من اليمن، على مذابح جميع آلهة الإمبراطورية الرومانية من سوريا إلى بريطانيا.
بدت رائحة أكياس البخور والمواد العطرية الأخرى قوية جداً لدرجة فقدان بعض رجال القوافل لوعيهم ببعض الأحيان. ولإنعاشهم، حرقوا القليل من الإسفلت والقطران والروث بالقرب من الأنف. على مدار قرون، شكَلَ هذا العلاج الوحيد لشفاء أولئك الذين عانوا مما سُميَ "داء العطور" آنذاك.
إن أكثر من أربعة آلاف ونصف ديانة، يفترض وجودها في العالم اليوم، يبدو مثقلاً بالصور والرموز والأناشيد والصلوات والتي عادةَ ما يتم تجاهل البعد الروائحي لها.
3. البخُّور في العالم الإبراهيميّ
في الكتاب المقدس، الرائحة هي أحد الأشكال الرئيسية للتفاعل والتواصل مع ما هو ألوهيّ. هكذا، نجد أنّ كل تضحية قد إمتلكت بُعداً شميّاً.
إن نزوات الآلهة غريبة بقدر ما تعكس قدراً من التهوُّر. في كل حضارة تاريخياً، منذ البداية:
هناك سلُّمُ روائحيُّ صاعد نحو الإله أو الله!
بحسب التقليد اليهوديّ، أمر الله الكاهن الأكبر بوجوب تقديم قربان البخُّور كل صباح ومساء في الهيكل المقدس بمدينة القدس. لكن، ليس أيّ بخُّور:
فقد وجب تحضيره من البلسم والجويسنة العطرة والجلبان واللبان واللبان والمر والسنا الإسكندراني ومسك الرومان الدرني والزعفران والقسط الهندي والإصطرك الطبي والقرفة، كما أمر الله موسى وكما نقرأ في سفر الخروج: "إجعلوه مسحوقاً وضعوه أمام تابوت العهد في خيمة الإجتماع، أي في المكان الذي سأجتمع بك فيه. هذا سيكون لكم شيئاً مقدساً للغاية".
أخذ اليهود البخور من المصريين. ويعرف بالعبرية باسم كتوريت קְטוֹרֶת، وهي مشتقة من كلمة كيشر קֶשֶׁר وتعني العلاقة والإتحاد والرابطة. لا تعطي التوراة الصيغة الدقيقة لصنعه، بل تعطي مكوناته فقط. وباعتباره "تقدمة روحية"، اعتقدوا بأن الدخان عبارة عن مادة وسيطة بين الهواء والأرض. ففي المزامير، يقارن تصاعد دخان البخور برفع الصلوات: "إرفع صلاتي أمامك كالبخور".
في زمن هيرودس، ملك اليهودية والجليل بين عامي 37 ق.م و4 ق.م، وقعت مسؤولية إعداد البخور على عائلة واحدة، هي عائلة أفتيناس، التي طوّر أفرادها طريقة فريدة، قد جعلت البخور يرتفع في الهواء على شكل نخلة. وعندما وصل الدخان إلى سقف الهيكل، توسع ثم نزل ليغطي كل شيء. هو سرّ محفوظ جيداً، قد توارثته الأجيال جيلاً بعد آخر: لم يفصح آل أفتيناس أبداً عن كيفية إعداد البخور خوفاً من إستخدامه لإرضاء آلهة أخرى برائحته.
غضب الحاخامات لرفض تعليمهم هذا السرّ، فسافروا إلى الإسكندرية وتعاقدوا هناك مع حرفيين حاولوا استنساخ صيغة عائلة أفتيناس. مع ذلك، لم ينجح أي منهم في هذا المسعى: فقد تصاعد دخان بخورهم بطريقة منتشرة ومتناثرة. عندما رأوا ذلك، أعاد الحاخامات إلى عائلة أفتيناس مهمتهم وضاعفوا أجرهم. لم يكن بإمكان الهيكل في أورشليم أن يعمل بدون تلك الروائح. بدت وظيفتهم أساسيّة: لقد حددوا فضاء المقدس الألوهيّ المنفصل عن الدنيوي البشريّ.
وُجِدَ مذبح البخور في وسط الهيكل المقدس. ومثلت شعلة المصابيح الزيتية الدائمة في الهيكل علامةً على الحضور الإلهي. يقول زوهار باراشا فاياخيل، وهو نص صوفي كُتب في القرن الثالث عشر ويعتبر أحد الأعمال المركزية في القابالا: "من شم رائحة الدخان، قد صار نقيَّ القلب ومستعداً لعبادة إلهه: اختفت منه وصمة الروح الشريرة. وهكذا، امتلك البخور القدرة على كسر قوة الروح الشريرة في الإنسان كليّاً".
في الوقت الراهن، خلال الإحتفال اليهوديّ بالهافدالا הַבְדָּלָה (صلاة الإنتقال من السبت للأيام العادية)، يُعلَنُ عن وصول إسبوع جديد بالصلاة والنبيذ والروائح: تُمرَّرُ البهارات من يد ليد حول المائدة لكي يشمها الحاضرون. بحسب القابالا، من بين جميع الحواس، حاسة الشمّ، بالإضافة إلى صعوبة التقييم والتعريف، هي الوحيد المؤثرة على الروح بشكل حقيقيّ. تُسهِّلُ رائحة الأعشاب العطرية الإنتقال من يوم الإبتهاج الروحي إلى أسبوع مطبوع بكل ما هو ماديّ ودنيوي.
ليس هناك دليل على حرق المسيحيين للبخُّور في مقاصد دينية خلال القرون الأربعة الأولى من وجودهم. بدا إستعماله في التقليد اليهودي قوياً الأمر الذي دفع المسيحيين لهجران هذه الممارسة وربطها بالوثنية. خلال القرن الثالث، إعتبر القائد المسيحي اليوناني أوريجانوس أن الشياطين قد عبدوا رائحة البخور وإعتبروه طعامهم. هذا النفور ليس مفاجئًا إذا أخذنا عدد المسيحيين الذين أُعدموا لرفضهم حرق هذه الراتنجات العطرية أمام صورة الإمبراطور الروماني كاختبار للولاء بعين الإعتبار: فبينما زيَّنت رائحة الخبز مذابحهم السرية، رافقت رائحة اللحم المحترق شهداءهم.
عبّرَ البخور عن التضحية. شكَّلَ كأس التواصل مع الله. في مستهلّ القرن الخامس، تبناه المسيحيون كشكل من أشكال التقديس والتطهير في كل مرحلة من مراحل الاحتفالات الدينية كما هو مذكور في كتاب الطقوس الدينية للكنيسة الكاثوليكية: في موكب الدخول، عند قراءة الإنجيل، عند التقدمة وعند رفع القربان المقدس. وكما هو الحال في الديانات الأخرى، ارتبط دخان البخور بصعود صلوات المؤمنين إلى الله.
دُمِجَ العديد من العادات تدريجياً في الممارسات المسيحية، على سبيل المثال، في الكنيسة الشرقية، هناك إفراط بإستعمال البخور لتبخير الأيقونات والمذابح وأواني العبادة حتى يومنا هذا.
لم يكن الملوك المجوس الثلاثة مجوساً ولا ملوكاً ولا ثلاثة!! يقول إنجيل متى أنه "جاء من المشرق بعض المجوس إلى القدس" - من الفارسية ما-جو-و-شا، كما عُرِفَ الكهنة الحكماء في الشرق القديم – وقد إهتدوا بنجم نحو بيت لحم. حتى القرن الثالث الميلادي، أظهرت الرسوم التصويرية في سراديب الموتى المسيحية المشهد مع اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو حتى ستة من المجوس. أكَّدَت الكنائس السورية والأرمنية أنهم كانوا اثني عشر، أي على عدد الرسل وأسباط إسرائيل. ما تتفق عليه هذه السجلات هو أن هذه الشخصيات المهمة قد زارت يسوع المولود الجديد وقدمت له ثلاث هدايا ذات قيمة رمزية عالية، وهي أثمن السلع ذاك الوقت: الذهب كإقرار بملكيته، والبخُّور في إشارة إلى خصلته الإلهية، والمر الذي يمكن أن يُفسر بحسب بعض المؤرخين على أنه إشارة إلى أن يسوع "قد جاء ليزيل الألم من العالم".
هي قاعدة التفسيرات للإستعمال الذي أعطي قديماً لهذه المادة الراتنجية العطرية، غالية الثمن والمرغوبة للغاية: فقد قيل بأنها عالجت كل شيء تقريباً (الصلع والكدمات والإسهال وما إلى ذلك). كما نُسِبَ إليها أثراً مخدراً ملموساً، كما أنها غطّت على رائحة اللحم المتفسخ المتحلل، كذلك، جرى ربطها بإحداث متعة واعتقد بأنها قد طهَّرت الجسد كتهيئة له للحياة هناك في العالم الآخر.
لم يكن البخور القربان الوحيد بالضرورة، ولا الأكثر اهمية أو قوة، لكنه شكَّلَ مرافقاً عاماً للطقوس الخاصة بالأضاحي من كل الأنواع بالعموم.
شكلت رائحته علامة مميزة في تلك المناسبة، ففي أيّ سياق، يمكن اعتبار "البخور" كمُصطلح مكافيء لمصطلح "الأضحية أو القربان". بخلاف القربان الحيواني، الذي وفَّرَ اللحوم للكهنة وللجماعة لتناولها كطعام، لم يوفِّر البخُّور أيّة منتجات قابلة للاستعمال. من هنا، شكَّلَ البخور مثالاً ممتازاً عن القربان المحترق، المحرقة – كبديل أرخص وأبسط من محرقة حيوانية، وممثِّل فعّال لعملية تقديم الأضاحي على نطاق أوسع. في العصر الروماني على نحو خاص، امتلك مكانة هامة لهذا السبب بالذات. فقد وصف أونابيوس بيت الفيلسوف يوليان الكابادوكي "الفقير والمتواضع" كبيت معطر برائحة البخور كما لو كان "هيكلاً مقدساً" استخدم بليناس الحكيم الطواني البان، ورغب بالقول من خلال خط سير الدخان المتصاعد ومزايا النار الحارقة بأن صلاته موضع قبول. فيما تحدث بلوتارخ بإعجاب عن تقديم المصريين للبخور ثلاث مرات يومياً للشمس: راتنج أو صمغ في الصباح، المرّ في فترة الظهيرة ومزيج من ستة بهارات في المساء، وقد أشار بلوتارخ إلى "أن هذا لم يحدث هذا الخلط أو المزج صدفة، بل خلط مُحضِّرو المراهم تلك المكونات بناء على وصايا الكتابات المقدسة".
فُهِمَ حرق البخور على أنه شيء تحويلي أو تغييري لا شيء تخريبي أو تهديمي. حيث تتحول المادة الأساسية المتكونة من صمغ أو راتنج إلى رائحة عطرة، مادة غير ملموسة تُدرَكُ من خلال بعدين، بواسطة الرائحة وبواسطة البصر من خلال مشاهدة الدخان المتصاعد. انتقل البخُّور، من خلال الحرق، إلى السماء: الصورة المادية للصعود والتي تعكسها الرؤى الكونية للمؤمنين بعدّة آلهة ولليهود على حدٍّ سواء. كانت صورة النهوض في الصلاة، مثل صعود البخور باتجاه الإله، عابرة للتقاليد الدينية. فقد أشارت المسيحية ذاتها في المزامير إلى هذا الأمر وبمناسبات عديدة:
141 :2 لتستقم صلاتي كالبخور قدامك ليكن رفع يدي كذبيحة مسائية.
على المستوى الإسلاميّ، وبحسب مصادر عديدة متطابقة، فلا مشكلة بإستعمال البخُّور زكيّ الرائحة ضمن الطقوس الدينية أو خارجها، بل هناك تحبيذ لتبخير المساجد والمنازل. أوصى محمد ذاته بإستعمال البخُّورفي بعض أحاديثه.
4. البخُّور في العالم البوذيّ
في جنوب شرق آسيا، وفي الصين على نحو خاص، يُستخدم البخور منذ قرون كعنصر رئيسي للتواصل مع الحياة الآخرة:
يحرق في حضور الأقارب المتوفين حديثاً لحماية الجسد وتسهيل مرور الروح وإبعاد الأرواح الشريرة. يُستخدم بخور خاص، يُعرف في اللغة الصينية باسم فان هون هسيانغ، وفي اليابانية باسم هانغون-كو ("بخور إستحضار الأرواح")، للتحدث مع الموتى. وبحسب المؤرخ إدوارد شافر، إعتادوا على تشريب الكتب البوذية بصور عطرية.
في السياق الديني، يُستخدَمُ البخُّور لأسباب متنوعة في ثقافات عديدة، عادةً لأجل مقاصد علاجية صحية أو تطهيرية. في الدين الصيني التقليدي، البخُّور وأدواته عبارة عن شأن أساسيّ لأجل إقامة إتصال مع الكائنات الروحيّة بالإضافة لتأسيس مجتمعات دينيّة والحفاظ عليها. على مستوى المتدينين الصينيين، يفتح حرق البخُّور بوابات التواصل مع الآلهة، فيما يُعتبر رماد البخُّور أساسياً لتأسيس معابد جديدة. من خلال الحجّ، يُستعمل البخُّور لرسم حدود مملكة الإله والحفاظ على العلاقات بين مجتمعات المعبد. للمجتمعات الصينية تاريخ طويل في تشكيل الجمعيات التطوعية، دينية وغير دينية، والتي تنظمت حول إستعمال كل ما يتعلق من أشياء بالبخُّور.
كما تُلاحظ جين دي برناردي في بحثها حول الدين الصيني في بينانغ وماليزيا:
"ليس هناك عبادة أهمّ من تقديم البخُّور".
يعود أقدم مؤشِّر موثق على حرق البخُّور لأسباب دينية في الصين إلى أواخر فترة حكم سلالة زو (1046 – 256 قبل الميلاد) وأوائل فترة حكم سلالة كين (221 – 207 قبل الميلاد). قبل العام 200 ميلادي، حرق الصينيُّون عدد من الحبوب والنباتات والأزهار العطرية بالإضافة لزيوت حيوانية معاً لأجل خلق رائحة جاذبة للألوهة وللأسلاف. وضعوا تقدمات الطعام في إناء طهي أو في كأس خاص.
بحسب فقه اللغة الصينيّ، فإنّ كلمة بخُّور香 مُتكوِّنة من عنصرين دلاليين. العنصر العلوي 禾 ويعني الحبّة، والعنصر السفلي甘 ويعني زكيّ أو حلو. المعنى الأصليّ للبخُّور، بالتالي، هو الحبوب المُصدرة للرائحة الزكية.
جرت إستعارة هذه التسمية لإستخدامها بتسمية البخُّور المصنوع من خشب الصندل، عندما إستورده البوذيُّون الهنود بحدود العام 200 ميلادي. جرى تحسين حرق البخُّور وتكثيف إستعماله دينياً بعدما دخلت البوذية إلى الصين من الهند وعبر تركستان خلال حكم أسرة هان (206 قبل الميلاد – 220 ميلادي). إستورد الصينيُّون أعشاب عطرية أجنبية من جنوب شرق آسيا من الهند من وقتها.
بحسب سيلفيو بيديني، لم يُخصِّص الصينيُّون إناءاً لحرق البخُّور قبل عهد سلالة هان وخلال حكم الإمبراطور فو (157 – 87 قبل الميلاد).
عُرِفَت أوّل مبخرة بإسم "مبخرة الرابية" (بو شان لو 博山爐).
بدت مثل طاسة ضيِّقة من الأسفل وترتكز إلى دعامات قصيرة وتنفتح من الأعلى على شكل صحن أو حوض. أما الغطاء فهو مخروطي ومصبوب على شكل تلّ أو رابية. صمَّموا محارق البخُّور تلك على نماذج متنوعة قديمة إستخدمها الأسلاف في عبادتهم منذ حكم سلالة شانغ (1600 – 1046 ق.م) وسلالة زهو (1046 – 206 ق.م). شاع شكل قديم هو الدينغ 鼎، الذي استُخدِمَ أصلاً لوضع اللحوم المُقدَّمة كقرابين في طقوس قديمة. جرى تصميم محارق البخُّور بعناية لتبدو مثل إناء طبخ أو طنجرة وإسمها لو 爐، وإسم إناء البخُّور في لغة الماندرين هو شيانغ لو 香爐 ويعني إناء العطر.
جرى إنتاج عيدان البخُّور قبل حكم سلالة مينغ (1386 – 1644)، لكن، خلال حكم هذه السلالة، تحسَّنَ صنعها بإستخدام الخيزران الشمعي مع مسحوق البخُّور. تقف عيدان البخُّور هذه بثبات أكبر في المباخر، التي تُملأ بالرمل النظيف لتحافظ على إنتصاب العيدان. بعد أن حسَّنَ المُتدينون عيدان البخُّور في عهد حكم سلالة مينغ، طوَّروا نوعاً جديداً من المباخر. مبخرة سلالة مينغ أكثر عمقاً من نظيرتها الهندية بحيث تبقى العيدان منتصبة فيها. لا يُنظَّف رماد البخُّور ولا يُرمى. على العكس من هذا، إحتفظ المؤمنون بالرماد في المبخرة لكي يساعد بإبقاء العيدان بحالة إنتصاب لإعتقادهم بأنّ فيه قوّة إلهية. دخان وإحتراق ورماد البخُّور هي مزايا مادية قوية لألوهيات غير مادية. خلال عمل هسون الميداني في معابد داجيا وشينغانغ مازو وعمل سكوت الميداني على المهرجانات الدينية في تاينان، أشار الكثير من المُتدينين إلى أنّ رائحة البخُّور تُشير إلى حضور كائنات فوق طبيعية مُتفاعلة مع الناس ومع أشياء في العالم الماديّ. يعتبروا بأنّ للأرواح قدرات حسية ويعتقدون بأنها تنجذب إلى رائحة البخُّور.
في غالب الأحوال، يحضر عدد كبير من الآلهة في المعبد الواحد. لكل إله مبخرته الخاصة. إن يتواجد ثمانية عشر إله في معبد، فجب على المؤمن تقديم عود بخُّور لكل إله في مبخرته، بل حتى هناك آلهة هامة قد يُقدَّمُ لها ثلاثة عيدان دفعة واحدة. بإتباع ذات المنطق، لدى حضور ستة آلهة ولوح سلف كأهل بيت واحد، على المؤمن(ة) المُتعبِّد(ة) حرق 7 عيدان بخُّور كلما همَّ(ت) بالعبادة. سواء كانوا آلهة أو أسلاف أو أرواح جائعة، يتعاملوا معهم بذات المُعاملة كروح واحدة (أو واحد). كما أُشيرَ أعلاه، المبخرة هي إناء غذاء الكائن فوق الطبيعي أو الكائنات فوق الطبيعية، فإن لا يمتلك هذا الكائن فوق الطبيعي مبخرة ولا بخُّور قد يُصيبه الجوع ويؤدي هذا إلى التسبُّب بحدوث مشاكل للأحياء (مثل الأمراض والحظّ العاثر أو السيِّء).
إحدى السمات المميزة للحجيج الصيني هو الحجّ على شكل مجموعات نظراً لحضور إلتزام إجتماعي قويّ بالمشاركة. على سبيل المثال، لدى ذهاب مؤمني معبد داجيا مازو إلى الحجّ لمعبد بيغانغ، وجب على كل مؤمن (على كل ساكن في المنطقة، في الماضي) مُرافقة الإلاهة. فقد خصَّصَ الحجيج (شيانغ كي香客، شيان دين جياو 香燈腳) بضعة أيام لمرافقة الإلاهة في هذه الرحلة. هناك ضغوط إجتماعية قوية للإشتراك في الحجّ، حيث يُعزى سوء الحطّ لمن لا يشترك به. بحسب لي شيانغ-زهانغ، "تذهب الناس عادة لحجّ إلى المعبد الرئيسي في مكان إقامتهم". بكلمات أخرى، الحج عبارة عن تجربة روحية عميقة ولا يجوز إختيار المعبد عشوائياً. في الغالب الأعمّ من الحالات، يحجُّون إلى المعبد الأمّ الذي يتلقون رماد البخور منه.
من خلال الحجّ، يمكن للمجتمع إمتلاك هويّة بمستويات عديدة، وبهذا، تُبنى جماعة المؤمنين ويُحافَظُ وحدتها. تمتد هذه الهوية إلى مسقط الرأس لتأخذ طابع ذو صلة بالإحساس بالهوية التايوانية. نظراً لأنّ معظم صينيي هان في تايوان قد هاجروا من فوجيان، ترتبط مازو تاريخياً بحوادث تلك الهجرة وتصبح رمزاً للهوية التايوانية بخلاف سكّان المناطق الأخرى. بعد إحتفال مازو بجزيرة ميتشو العام 1987، جرت رحات حجّ عديدة بين تايوان وبرّ الصين. لم يُقلِّل هذا التفاعل مع البرّ الصيني من الإحساس بالهوية التايوانية بل يزيد من إعتماد نوع من الحصرية والتمييز لمعابد تايوان. مع ذلك، تزداد رحلات الحجيج إلى الصين بإضطراد لأجل زياد نفوذ معابدهم دينياً وإقتصادياً وسياسياً. إمتد التنافس بين معابد مازو التايوانية إلى الصين وهو ما دفع حكومة تايوان إلى إعتماد سياسة منفتحة على البرّ الصيني.
وفي المعتقدات الطاوية، إعتفدوا بأن إستخراج عطر النبات عبارة عن عملية إطلاق لروحه. ويُمثِّل تحول البخور الصلب إلى أبخرة عطرة عملية تحول الحالة الجسدية أو الفانية إلى مستوى روحي.
في اليابان، حرق البوذيون البخور لجذب الأرواح الآكلة للدخان "جيكي-كو-كي"، وفي الصين، منذ عهد أسرة هان خلال القرن الثالث قبل الميلاد، احتل البخور مكاناً مهماً في الإحتفالات الدينية عند أقدام تماثيل بوذا، قبل أن يتحول لقوة موجهة للتأمل.
5. الخُلاصة
الوظيفة الأولى للقرابين الروائحية الدخانية هي إقرار إتصال مباشر بين الدنيوي والألوهي أو بين المُدنس والمُقدس باللغة الدينية التقليدية.
إستخدموها بعبادة كائنات فوق طبيعية، قدموا البخُّور المُنتقى بعناية للآلهة لشكرها أو لجعلها رحيمة وكريمة.
علاوة على هذا، إمتلك طقس الحرق لمواد متنوعة هدفاً متمثلاً بالإتصال بين الأحياء والاموات أو الحفاظ على هذا الإتصال بينهم؛ في هذه العملية، جرى إستبدال مُتدرِّج للقرابين الحيوانية بحرق البخُّور.
بالإضافة إلى تناغم الفرد العاطفي مع الطقس الديني، لحرق البخُّور وظيفة دامجة وموحدة ضمن الجماعة الدينية. ليس على مستوى المُشاركين الفعليين بالصلوات فقط، بل على جميع الحاضرين الإشتراك المتزامن في طقس قداسي وتواصل مع الربّ.
يُسجِّلُ إستعمال البخُّور، بالإضافة إلى مواد روائحية أخرى، خبرة وتجربة إنتقال مُشترك للجماعة من حالة الدنس إلى حالة المقدس. يُولِّدُ إدراك الروائح، بالإضافة إلى التشبُّع بها، شعوراً جمعياً "بالنحن" بين المُشاركين:
فلا يقتصر الإحساس بالتواصل مع ما هو مُقدّس فحسب، بل يمتد ليشمل جميع المؤمنين. ترمز الرائحة إلى للإشتراك في عمل ديني جماعي؛ فهي تنقل – بشكل أكبر مما يحصل مع إدراكات حسيّة أخرى - ما هو مُشترك ومُوحِّد في العمل الإجتماعي. في المعنى الدوركهايمي، يمكن تفسير إستعمال الديني والطقوسيّ للروائح، بالتالي، كظاهرة إجتماعية حقيقية.
يتبع
المصادر
1. Incense - Benefits, Use, History & Health
https://seawitchbotanicals.com/pages/incense-use-history-health
2. Federico Kukso, Odorama; Historia cultural del olor. Taurus. 2019
3. Scott Habkirk & Hsun Chang (2017) Scents, Community, and Incense in Traditional Chinese Religion, Material Religion, 13:2, 156-174, DOI:
10.1080/17432200.2017.1289306
To link to this article: http://dx.doi.org/10.1080/17432200.2017.1289306
DeBernardi, Jean. 2006. The Way That Lives in the Heart: Chinese Popular Religion and Spirit Mediums in Penang, Malaysia. Stanford: Stanford University Press.
Bedini, Silvio A. 1994. The Trail of Time: Time Measurement with Incense in East Asia. Cambridge: Cambridge University Press.
4. THE OLFACTORY CONTEXT, Smelling the Early Christian World Religious symbols . . . reek of meaning. Clifford Geertz
5. AL‐AZHAR, Aromas de Leyenda como objeto de estudio. Editor: Editorial de la Universidad de Granada. Autor: Iluminada Pérez Frutos D.L.: GR 1936-2014. ISBN: 978-84-9083-107-6
6. Die soziale Konstruktion olfaktorischer Wahrnehmung. Eine Soziologie des Geruchs. Dissertation zur Erlangung des akademischen Grades des Doktors der Sozialwissenschaften an der Universität Konstanz. Vorgelegt von Jürgen Raab im September 1998
للإطلاع على مواضيع أخرى ذات صلة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (1) تعريف علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (2) عدم الإهتمام بهذا العلم
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (3) أهمية الروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (4) آراء أخصائيين بعلم الإنسان بهذا الموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (6) دور الروائح في النفور والإنجذاب
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (7) تفادي الروائح الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (8) رائحة الأزهار وهويّة شميّة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (9) إدارة الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (10) إدارة الإنطباع الحسي متابعة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (11) متابعة الحديث حول الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (12) نهاية الحديث حول الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (13) مناهضة الحواس، سيما حاسة الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (14) مواقف فلاسفة وأخصائيين إجتماعيين من الموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (15) مواقف قديمة داعمة للموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (16) معاني وتصنيفات الروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (17) العلاقة بين الشمّ والروائح والذاكرة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (18) كيفية بناء التقييم الشميّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (19) حاسة الشمّ والأغذية والتذوُّق
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (20) الرمزية الشميّة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (21) تاريخ وسياسة حاسة الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (22) الشمّ والروائح والتقسيم الطبقيّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (23) حاسة الشمّ والروائح والتقسيم الجندريّ الجنسيّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (24) الروائح والعنصرية
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (25) عوالم حسيّة مختلفة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (26) الروائح والشمّ في الطبّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (27) أهمية بحث علم الإجتماع للروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (28) الروائح والهويّة وخسارة القدرة على الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (29) رائحة الفم (النَفَسْ) الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (30) رائحة الأقدام الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (31) جورج زيميل وحاسة الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (32) روائح المدن
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (33) العلاقة بين حاسة الشم والروائح واللغات
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (34) الروائح في العمل التجاري
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (35) الأديان الإبراهيمية والروائح والشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (36) الروائح البيئيّة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (37) ضعف حاسة الشم لدى البشر؟!
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (38) مفهوم رائحة الأجنبيّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (39) الفنّ الشميّ أو الروائحيّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (40) الروائح الجسدية عموماً
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (41) رائحةُ الإبطين الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (42) عملية الشم وعلاقتها بالتواصل في حياة البشر
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (43) رائحتي الحيوانات المنوية والإفرازات المهبلية




No comments:
Post a Comment