في هذا الجزء، يجري الحديث حول روائح جسد الإنسان بشكل عام، بعد أن تطرقنا، في أجزاء سابقة، لروائح جسدية محددة بعينها.
"تفرضُ رائحة الآخر نفسها عليَّ، مثل وجه الآخر، ولا تترك لي أيّة فرصة للمقاومة".
إيمانويل ليفيناس، فيلسوف فرنسي
تنبعث من جلد كل شخص رائحة فريدة من نوعها ولا تتأثر بالتنظيف أو التعطير
وتتوسط علاقته بالآخرين.
فرائحة الجسد، على حد تعبير الأخصائيّ بعلم الإنسان ديفيد لو بريتون،
تُميّزنا عن غيرنا كما تُميّزنا بصمات الأصابع.
إنها تفضحنا.
هي تُعرّي حميميتنا، بحسب الاخصائي الألماني بعلم الإجتماع جورج زيميل.
بهذا المعنى، يشكل مجموع الروائح المنبعثة من أجسادنا "جواز سفرنا الفوّاح
الروائحيّ"، الذي اعتدنا عليه، وفي بعض الحالات، أدمنّا عليه.
في رواية "عوليس" لجيمس جويس، يوضح ليوبولد بلوم "هوسه بروائح
جسده"، قائلاً:
"فلا يسعه إلا أن يستمتع برائحة برازه أثناء قراءة الجريدة في الحمام".
إن بطاقة الهوية الشمية هذه شخصية وفريدة من نوعها وتعمل كعلامة شمية يمكن التعرف عليها بسهولة، رغم أنها تتغير على مدار حيواتنا:
فلا تشبه رائحة غرفة المراهق رائحة غرفة الطفل أو دار رعاية المسنين.
وبالتالي، فإن كل شخص هو عبارة عن حالة شميّة فريدة من نوعها1.
تتكون رائحتك من مركبات عضوية متطايرة موجودة في الغازات المنبعثة من جلدك. هذه الغازات هي مزيج من العرق والزيوت والعناصر المنبعثة من الغدد الموجودة في جلدك.
وتعتمد المكونات الأساسية لرائحتك على عوامل داخلية، مثل:
العرق والعنصر والجندر وغيرها من السمات.
وتتوقف المكونات الثانوية على عوامل، مثل:
الإجهاد والنظام الغذائي والمرض. وتتراكم المكونات الثانوية من مصادر خارجية مثل العطور والصابون فوق رائحتك الشخصية المميزة2.
بشرتنا مغطاة بالبكتيريا بشكل طبيعي، فعندما نتعرّق، يختلط الماء والملح والدهون مع هذه البكتيريا، لتظهر إمكانيّة ظهور الرائحة.
العرق، بحد ذاته، ليس له رائحة، ولكن، عندما تختلط البكتيريا الموجودة على جلدك مع العرق، فإنها تسبب ظهور الروائح.
قد تظهر رائحة زكيّة أو حامضة أو منعشة أو مثل رائحة البصل على الجسد. لا
تؤثر كمية العرق الصادرة، بالضرورة، على رائحة جسمك.
لهذا السبب، يمكن حضور رائحة كريهة
جسدية لدى الشخص دون حدوث تعرُّق مفرط.
وعلى العكس، يمكن للشخص أن يتعرق بشكل مفرط دون أن تظهر رائحة جسدية كريهة3.
أيّ دور تلعبه الروائح الجسدية في السلوك البشريّ وفي عملية التواصل بين الأشخاص؟
لا يقبل الواقع الإجتماعي للمجتمعات الغربية الحديثة الروائح الجسدية الطبيعية الصادرة عن الأفراد خلال اللقاءات الإجتماعية. يتجلَّى هذا الأمر من خلال الرفض والنفور من الأبخرة الطبيعية، حتى تلك الصادرة عن الشركاء الحميمين والمرتبطين عاطفياً، بالتالي، من جديد، يمكن الإستشهاد بتوصيفات صريحة وراهنية لجان جينيه:
"تُسعدني رائحة ضراطي فقط، وتُثير إشمئزازي تلك الصادرة عن أجمل شخص في العالم؛ في الواقع، يكفي الشكّ بمعرفة مصدر الرائحة إن يكن مني أو من الآخر، لكي تصبح كريهة أو غير محبذة".
هكذا، نجد أنّه حتى لو إمتلكت الروائح الجسدية الطبيعية الأهمية، فلا يجب التقليل من قيمتها على مستوى الإدراك الذاتي والتقييم الذاتي للفرد، والتي يتجلى مضمونها في اللقاءات الإجتماعية فقط.
الواضح أنّ موضوع حاسة الشمّ ذو حساسيّة ومثير للإحراج والنفور وأنّ روائح الجسم الطبيعية غيرمقبولة أبداً ويجب العمل على تفادي ظهورها كي لا تُضايق الآخرين بممارسة طقوس معينة:
- ربما
هو موضوع ذو حساسية – طالما أنه يتناول الرائحة.
-
تتفاعل أنوفنا المتحضرة مع الروائح الجسدية الكثيفة ومع رائحة العرق، تنشُّق
أنفيّ.
- لا يتحمل كثيرون رائحة العَرَق، لأنها قد تسبب لهم الغثيان وحتّى الإستفراغ.
لأجل تفادي الإحراج والإهانة في المواقف، بالعموم، يجري الحديث عن النظافة المرتكزة على إزالة الروائح الكريهة أو النظافة الجسدية كمُقدِّمة لكل تفاعل إجتماعي.
لمواجهة التكوُّن الطبيعي للروائح الجسدية خلال النهار – حيث لا يتسع المجال للتنظيف أحياناً – يمكن إستعمال مزيلات العرق بكميات معقولة للقضاء على تلك الروائح4.
روائح جسدية؛ وأخرى مُغيِّرة للجسد
في كثير من السياقات التاريخية، جرى فهم الروائح بوصفها مندمجة، أي كونها
شأناً جسديّاً، وبالتالي، تمثل شأناً مغيِّراً للشخص أو مُحوِّلاً له. بكلمات
أخرى، لم يكن الإنقسام بين الإنسان والبيئة مُطلقاً ولا مُحكماً.
مطلع القرن العشرين، اعترف عاملون في مصانع مصدرة لكبريتات الهيدروجين بأن استنشاقهم لرائحة هذا الغاز:
قد غيرهم جسدياً – لقد أضعف قدراتهم على تمييز الروائح5.
ربما تتأثر صورة الجسد البشريّ بمحفزات حسيّة معينة، حيث تجعلنا بعض
الروائح والأصوات نشعر بأننا أكثر نحافة أو ذوي وزن زائد.
فبحسب دراسة مجراة العام 2019 بالتعاون بين جامعة ساكس وجامعة لندن وجامعة
كارلوس الثالث بمدريد:
أجري إختباران، طلبوا بأحدها من المشاركين ضبط صورة جسدية ثلاثية الأبعاد
على شاشة لتمثلهم على أفضل وجه أثناء تعرضهم للروائح. تسببت رائحة الليمون بجعلهم
يضبطون الصور بما يناسب الوزن الأخفّ؛ فيما إمتلكت رائحة الفانيليا أثراً معاكساً.
في الإختبار الثاني، طلبوا من المشاركين وضع سماعات لسماع نوع موسيقي معين
والمشي في ظلّ تغيير متواصل للنغمة صعوداً وهبوطاً، بتلك الأثناء، جعلوهم يشمُّون
رائحتي الليمون والفانيليا، فأصبحت النتيجة أوضح بكثير في ظلّ تآلف الأصوات مع
الروائح6.
استخدم
العديد من الحضارات القديمة، بينها مصر والصين والهند، العلاج بالروائح كعلاج
تكميلي وبديل شائع على مدار آلاف السنين.
في الطب
التقليدي، وكذلك، في العلاج بالروائح العطرية والأدوية العشبية، استخدمت الزيوت
العطرية ومركبات العطور لعلاج مختلف الإضطرابات النفسية والجسدية مثل الصداع
والألم والأرق والأكزيما والقلق الناجم عن الإجهاد والاكتئاب ومشاكل الجهاز
الهضمي.
في السنوات
الأخيرة، كشفت دراسات مختلفة أن التحفيز الشمي من خلال استنشاق العطور له تأثيرات
نفسية وفسيولوجية مختلفة على البشر.
هناك طرق مختلفة متاحة لإعطاء تلك المواد الفوّاحة بكميات صغيرة، بما في ذلك الإستنشاق والتدليك أو التطبيق البسيط على سطح الجلد، وفي بعض الأحيان، يمكن تناولها7.
يتبع
المصادر
1. Federico Kukso, Odorama; Historia cultural
del olor. Taurus. 2019
2. Your unique body odor could identify who
you are and provide insights into your health – all from the touch of a hand.
Publicado: 20 septiembre 2023 14:26 CEST
Chantrell Frazier, Kenneth G. Furton, Vidia
A. Gokool
3. Body Odour
https://my.clevelandclinic.org/health/symptoms/17865-body-odor
4. Die soziale Konstruktion olfaktorischer Wahrnehmung. Eine Soziologie des Geruchs. Dissertation zur Erlangung des akademischen Grades des Doktors der Sozialwissenschaften an der Universität Konstanz. Vorgelegt von Jürgen Raab im September 1998
5. AHR Forum. Follow Your Nose? Smell, Smelling, and Their Histories, MARK S. R. JENNER
6. Your body image can be influenced by smells and sounds
Research finds that our sense of self can be manipulated by certain smells and sounds. Robby Berman
https://bigthink.com/health/body-image/
7. Influence of Fragrances on Human Psychophysiological Activity:
With Special Reference to Human Electroencephalographic Response. Kandhasamy
Sowndhararajan, Songmun Kim Editor: Helmut Viernstein
https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC5198031/
للإطلاع على مواضيع أخرى ذات صلة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (1) تعريف علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (2) عدم الإهتمام بهذا العلم
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (3) أهمية الروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (4) آراء أخصائيين بعلم الإنسان بهذا الموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (6) دور الروائح في النفور والإنجذاب
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (7) تفادي الروائح الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (8) رائحة الأزهار وهويّة شميّة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (9) إدارة الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (10) إدارة الإنطباع الحسي متابعة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (11) متابعة الحديث حول الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (12) نهاية الحديث حول الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (13) مناهضة الحواس، سيما حاسة الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (14) مواقف فلاسفة وأخصائيين إجتماعيين من الموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (15) مواقف قديمة داعمة للموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (16) معاني وتصنيفات الروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (17) العلاقة بين الشمّ والروائح والذاكرة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (18) كيفية بناء التقييم الشميّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (19) حاسة الشمّ والأغذية والتذوُّق
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (20) الرمزية الشميّة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (21) تاريخ وسياسة حاسة الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (22) الشمّ والروائح والتقسيم الطبقيّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (23) حاسة الشمّ والروائح والتقسيم الجندريّ الجنسيّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (24) الروائح والعنصرية
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (25) عوالم حسيّة مختلفة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (26) الروائح والشمّ في الطبّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (27) أهمية بحث علم الإجتماع للروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (28) الروائح والهويّة وخسارة القدرة على الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (29) رائحة الفم (النَفَسْ) الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (30) رائحة الأقدام الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (31) جورج زيميل وحاسة الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (32) روائح المدن
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (33) العلاقة بين حاسة الشم والروائح واللغات
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (34) الروائح في العمل التجاري
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (35) الأديان الإبراهيمية والروائح والشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (36) الروائح البيئيّة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (37) ضعف حاسة الشم لدى البشر؟!
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (38) مفهوم رائحة الأجنبيّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (39) الفنّ الشميّ أو الروائحيّ




No comments:
Post a Comment