في هذا الجزء، سيتركَّز الحديث حول مفهوم "رائحة الأجنبي".
تتخلل الرموز الشمية الفكر التصنيفي، ليس فقط في المجتمعات "الغريبة"، ذات الوعي الشمي العالي؛ بل حتى في المجتمع الغربي "منزوع الرائحة". توفر دراسة كيفية إستخدام الروائح لتصنيف "الآخرين" في المجتمعات المختلفة نظرة ثاقبة على مستوى بناء مفاهيم "الجماعة الواحدة" مقابل "الآخرين"، وأوجه التشابه والإختلاف بين الثقافات.
لا تشكل الرائحة الكريهة، المنسوبة إلى الآخرين، إستجابة لإدراك شميّ واقعيّ بل هي إستعارة حول الإنحلال الإجتماعي. تُفحَصُ الرمزية الشمية كما هي مطبقة على الآخر البشري والآخر الطبيعي والآخر الميكانيكي والآخر الخارق للطبيعة. هناك أمثلة توضيحية من مجموعة متنوعة من السياقات الثقافية1.
"عبَّرَ ما يسمى بـ "رائحة الأجنبي" عن خوف الرومان الكبير من عالم مجهول خارج حدود إمبراطوريتهم الآخذة في التوسع. كل شيء عن البرابرة، حتى رائحتهم، بدا منفراً للرومان"، كما كتب سالفين دي مرسيليا، وهو كاتب مسيحي لاتيني قد عاش خلال القرن الخامس الميلادي2.
الرمزية الشمية حاضرة في عمليات التصنيف الإجتماعي.
تُستخدم الرائحة كعلامة دونية في عمليات التمايز وتجنب المهاجرين الأجانب في
المدينة، وهو الآخر الأدنى ذو "الرائحة الكريهة".
لا مكان للرائحة في البيئات المنزوعة الرائحة في البيئات ذات الجوانب الحسية الكريهة للمدن الغربية اليوم، بحيث يعمل نسب الرائحة (الكريهة) إلى أجساد معينة، موسومة بالإختلاف، كعلامة حسية مسجلة لفارق غير مقبول معطل لعمليات الحداثة المتعلقة بإزالة أو حصر الروائح في النطاق الخاص.
في الحالة المحددة للمهاجر الأجنبيّ، تُستخدم الرائحة
كتعزيز رمزي للغاية في عمليات تمييز لهذا المهاجر الأجنبيّ – الآخر3.
دون أدنى شكّ، قد نستفيد من
خلال النظر في الطرق، التي تؤثر العنصرية الشمية و"رائحة المهاجرين" من
خلالها على تشكيل الهويّات العرقية والقلق الشمي والممارسات العطرية؛ ومن خلال
تحليل التجارب والتمثيلات المختلفة للمهاجرين الأجانب من الجيل الأول والثاني
والثالث فيما يتعلق بالقلق الشمي وإدارة الروائح (الجسدية) أيضاً; من خلال الإستفسار
عن دور الممارسات العطرية في تحقيق الرفاهية الحسية، وكذلك، في المقاومة والنضال
ضد العنصرية؛ وأخيراً، من خلال التساؤل عن علاقة كل هذا بتاريخ وأرشيف بُنى التفوق
الأبيض والإستعمار الأوروبي الأمريكي4.
أمثلة واقعيّة حول روائح الأجانب
الباكستانيُّون بين البريطانيين
توجد إمكانية قوية لاعتبار الروائح مؤشراً لتفادي جماعات غريبة بشكل عفوي وإبقاء الشعور بالانتماء الضمني لذات الجماعة. ضمن هذا السياق، يمكن لنا الإفتراض بأن رائحة الثوم، التي تشكل عنصراً مناهضاً للباكستانيين بين البريطانيين، ربما تُعزى، مع ذلك، إلى تحديد الباكستانيين لهوية خاصة ضمن ذات الجماعة الباكستانية5.
الشمّ والروائح بين العرب والأميركيين
حين يتلقى الأميركي نَفَسَ شخص عربيّ، سينزعج دون شكّ! حيث يعيش الأميركان والعرب في عالمين حسيين مختلفين. يستخدم العرب حاستي الشم واللمس أكثر من الأميركيين. لدى تكلمهم، لا يشعر العربيّ، بالعموم، ودون تعميم، بالأسف جرّاء وصول نَفَسَهِ إلى وجوه محاوريه. إشتمام صديق ليس محبذاً فقط، بل مرغوباً، من هنا، رفض نَفَسَه مكافيء لرفضه شخصياً. من جانب آخر، تعوَّدَ الأميركيون على عدم توجيه الزفير إلى وجه المحاور، بالتالي، لدى محاولتهم الظهور كمهذبين، يشعرون بنوع من الحرج في هكذا مواقف. على ذات المنوال، لا يحاول العربي إلغاء جميع روائحه الجسدية، بل يعززها ببناء العلاقات البشرية، على عكس الأميركيين، الذي يزيلون الروائح ويتعطرون.
روائح الأوروبيين بالنسبة
للصينيين واليابانيين
رغم إستخدام الروائح لتبرير الهيمنة، يستخدم المهمشون هذه الخطط بمواجهة وضع راهنيّ غير متكافيء، حيث تبدو مصطلحات النقاش حميمية ومباشرة ودارجة.
فقد أشار جورج أورويل إلى أنّ:
"الشرقيين (الشرق الأقصى) يقولون بصدور رائحة كريهة عنّا. أرى بأنّ الصينيين يعتبرون الإنسان الأبيض ذو رائحة شبيهة برائحة الجثث. يقول البرمانيون ذات الشيء، لكن، لم تصل الوقاحة لدرجة أن يُقال هذا لي مباشرة".
كذلك، درج اليابانيون على وصف الأوروبيين بمصطلح باتاكوساي: "ذوو رائحة نتنة شبيهة برائحة الزبدة"6.
رائحة الأجانب بالنسبة لأحد مستخدمي شبكة ريديت وهو فرنسيّ
أرغب بمعرفة إن يمتلك أحدٌ غيري إحساساً ذو صلة "بروائح الاجانب"؟
كلما أسافر إلى البرازيل، أشعر
برائحة خاصة بالآخرين الاجانب، قد تختلف شدتها او حدتها، لكن، لها نمطها المميز
الخاص دوماً. حدث هذا الأمر معي للمرّة الأولى العام 2007، حيث أطلقتُ على تلك
الرائحة تسمية "رائحة الأجنبيّ".
بدايةً، أشمها في المطار لحظة وصولي، وإن تكن خفيفة. بوقت لاحق، أشمها في الشوارع، وتبلغ ذروة قوتها في الفندق أو في شقق الإيجار السياحيّ الشهيرة، أرى بأنّ هناك شيئاً عاطفياً (إنفعالياً حسياً)، هو إحساس جيّد، بوقت لاحق، وبعد التعوُّد عليها بمرور عدّة أيام، تتلاشى تلك الرائحة تماماً.
أوّل ردّ تفاعليّ على ما ورد أعلاه
لدى قولك بأنّ لكل بلد أو مدينة "رائحة خاصة"، سأوافقك الرأي. اما أنّك تصادف ذات الرائحة دوماً في كل أسفارك، وليس إلى البرازيل فقط، فربما يرتبط هذا الأمر برائحة لشيء تحمله معك ولا تنتبه له.
ثاني ردّ تفاعليّ على ما ورد أعلاه
حسناً، لا أعرف إن تكن الحالة
هي ذاتها. يعيش أخي خارج فرنسا، وعندما يأتي بزيارة إلينا، لاحظتُ بأنّ لأغراضه
رائحة مميزة مختلفة، إعتقدتُ أنها رائحة نوع من العطور أو الزيوت العطرية، بدايةً،
لكن، بمرور فترة زمنية طويلة ما تزال الرائحة هي ذاتها. عنددما زرته في مكان
إقامته، لاحظتُ بأنّ رائحة كامل المنزل هي من ذات رائحة أغراضه!
لا أعرف إن تكن الروائح شيئاً في رؤوسنا، أم أنّ للأشياء روائح مختلفة فعلاً. ربما لا ينطبق هذا الأمر على كل شيء.
ثالث ردّ تفاعليّ على ما ورد أعلاه
في البرازيل، يستخدمون مبيضات الغسيل في كل شيء، بينما بأماكن أخرى، يستخدمون أنواعاً أخرى من المنتجات. بإعتبارك غير معتاد على هذه المركبات الكيميائية، فستلاحظ رائحتها بصورة أكبر. عندما أزور البرازيل، أشمُّ رائحة المبيضات بكل مكان.
رابع ردّ تفاعليّ على ما ورد أعلاه
أتفق تماماً مع ما ورد، فقد شممتُ رائحة المبيضات في كل مكان، ولو أنه في حالتي، فهي مزعجة وتسبب الغثيان لي. رائحة أخرى لا أشمها إلّا في البرازيل هي رائحة المياه، حيث عشتُ بعدّة مدن برازيلية ولاحظت بأنّ رائحة الكلور تفوح من المياه، حيث تعودت الناس عليها ولا تشعر بوجودها، اما أنا فأنزعج منها أيضاً7.
روائح السفن وفق بلد المنشأ
تنتشر روائح أخرى في الهواء الطلق، حاملة معها آثار الأماكن البعيدة التي تأتي منها. وهكذا، تنبعث من كل سفينة شحن راسية في الميناء رائحة خاصة بها:
حيث تصدر رائحة الخشب من السفن النرويجية؛ رائحة القهوة والتوابل من السفن البرازيلية؛ رائحة الزيت من السفن الألمانية؛ رائحة الحديد من السفن الإنجليزية، وتبرز كل هذه الروائح الغريبة، إلى حدٍّ ما، على خلفية رائحة الشمس والغبار التي تتصاعد من أرصفة الميناء8.
في إختبار ذو صلة بحاسة الشمّ والتعرُّض للروائح:
تسببت المواجهة المباشرة للمشاركين بالإختبار مع أجانب في حشود مجهولة بالنسبة لهم بتوليد إنطباع سلبيّ لديهم حول الروائح البشرية، التي تُعتبر كريهة أو سلبية عموماً9.
يتبع
المصادر
1. The odor of the
other: Olfactory symbolism and cultural categories
https://psycnet.apa.org/record/1992-42948-001
2. Federico Kukso, Odorama; Historia cultural del olor. Taurus. 2019
3. Journal of Ibero-American Anthropology. www.aibr.org. Volume 13. Number 1. January - April 2018. The smell of the migrant body in the deodorised city. Olfactory symbolism in the processes of social classification. Diana Mata-Codesal. Department of Humanities, Pompeu Fabra University. Spanish versión.
4. Claudia Liebelt
07/03/23 page 1/8. Scented Entanglements
https://boasblogs.org/undoingraceandracism/scented-entanglements/
Scented Entanglements. On olfactory racism and the ‘forgetting’ of odours and scents in the anthropological study of race
5. The Sociology of
Odors. Author(s): Gale Peter Largey and David Rodney Watson. Source: American
Journal of Sociology, Vol. 77, No. 6 (May, 1972), pp. 1021-1034. Published by:
The University of Chicago Press
6. A
sociology of smell, Synnott, Anthony. Canadian Review of Sociology and
Anthropology, Vol. 28, 1991, 437
7. Odeur de
l'étranger
https://www.reddit.com/r/viagens/comments/1nnx1bt/cheiro_do_exterior/?tl=fr
8. Les
odeurs de l’origine : le premier homme d’Albert Camus, Gianfranco Rubino, p.
253-266
https://books.openedition.org/pupvd/30729
9. Über den
Geruchssinn des Menschen, Margret Schleidt
للإطلاع على مواضيع أخرى ذات صلة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (1) تعريف علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (2) عدم الإهتمام بهذا العلم
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (3) أهمية الروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (4) آراء أخصائيين بعلم الإنسان بهذا الموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (6) دور الروائح في النفور والإنجذاب
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (7) تفادي الروائح الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (8) رائحة الأزهار وهويّة شميّة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (9) إدارة الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (10) إدارة الإنطباع الحسي متابعة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (11) متابعة الحديث حول الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (12) نهاية الحديث حول الإنطباع الحسي
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (13) مناهضة الحواس، سيما حاسة الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (14) مواقف فلاسفة وأخصائيين إجتماعيين من الموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (15) مواقف قديمة داعمة للموضوع
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (16) معاني وتصنيفات الروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (17) العلاقة بين الشمّ والروائح والذاكرة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (18) كيفية بناء التقييم الشميّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (19) حاسة الشمّ والأغذية والتذوُّق
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (20) الرمزية الشميّة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (21) تاريخ وسياسة حاسة الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (22) الشمّ والروائح والتقسيم الطبقيّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (23) حاسة الشمّ والروائح والتقسيم الجندريّ الجنسيّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (24) الروائح والعنصرية
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (25) عوالم حسيّة مختلفة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (26) الروائح والشمّ في الطبّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (27) أهمية بحث علم الإجتماع للروائح
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (28) الروائح والهويّة وخسارة القدرة على الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (29) رائحة الفم (النَفَسْ) الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (30) رائحة الأقدام الكريهة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (31) جورج زيميل وحاسة الشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (32) روائح المدن
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (33) العلاقة بين حاسة الشم والروائح واللغات
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (34) الروائح في العمل التجاري
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (35) الأديان الإبراهيمية والروائح والشمّ
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (36) الروائح البيئيّة
علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح (37) ضعف حاسة الشم لدى البشر؟!
No comments:
Post a Comment