في هذا
الجزء، سنتحدث حول الرمزية الشمية.
في روما
القديمة، على سبيل المثال، لم يكن يُنظر إلى الروائح على أنها منتج ثانوي لشيء أو
شخص. بل شكلت عوامل قوية بذاتها. فعلى سبيل المثال، يمكن للهواء الفاسد أو الروائح
الكريهة أن تسبب فساداً داخلياً، إذا ما دخلت إلى الجسم. لم تكن هناك روائح بريئة.
كما أن رائحة الأشخاص قد ميّزت أماكن تواجدهم، وبالنسبة للبعض، قد كوّنت قيمتهم أو
مكانتهم الإجتماعية.
الروماني أو
الرومانية هو (هي) ما يصدر عنه(ا) من رائحة.
اعتقدوا بأن المؤثرات الحسية الخارجية ذات تأثير
مباشر على المتلقي، وعنى هذا أن التعرض للأحاسيس "السليمة" ما هو إلّا
مسألة شخصية وأخلاقية أساسيّة.
أمضى معظم الناس، الذين عاشوا
في هذه المدن القديمة، حيواتهم في الشارع. في دكاكين الحلاقين والنافورات والأسواق
والساحات والحمامات والحانات، التي عملت بشكل مشابه لعمل مقاهي روما القديمة، حيث
إمتزجت روائح الحبوب والخضروات والأجبان والأسماك والنبيذ بالموسيقى والألعاب
والدعارة.
إكتسبت بيوت الدعارة أو المواخير الرومانية شهرة
أسطورية، حتى خارج حدود الإمبراطورية:
ليس لجمال ومهارات ممتهنات الدعارة، بل بسبب
الرائحة الكريهة لغرفها المزودة بأغطية أسرّة، لم يتذكر أحد متى تم تغييرها!!.
تدين روما
بتأسيسها إلى ذئبة، وهي صورة الوحش الذي أرضع رومولوس ورموس كرمز للمدينة. في
الواقع، هناك واقع اجتماعي دموي إلى حدٍّ ما وراء تلك الأسطورة: في ذلك الوقت، بعد
التخلي عن طفل رضيع، ببعض الأحيان، أمكنهم إنقاذه بواسطة ذئبة، وهي التسمية التي
أطلقوها على العاهرة في تلك الأثناء، بسبب رائحتها.
بدت
العاهرات كشخصيات مألوفة في الشوارع الرومانية، التي جابتها بحثاً عن الزبائن،
وبحسب بلاوتوس:
"فتيات نحيفات عرجاوات ودنيئات، عبارة عن
هياكل عظمية حقيقية، تصدر عنها روائح كريهة".
وقال لوسيليو إن رائحة العاهرات المسنات مماثلة
لرائحة الخنازير.
وكتب الشاعر الهزلي تيموكليس أنه قد أمكنهم التمييز بين الشابات "الشريفات" والعاهرات من خلال روائحهن المختلفة1.
بحسب أنطوني ساينوت:
تتجلى
هذه الرمزية الشمية بحالتها القصوى عندما نقترب من متسول أو متشرد وسط المدينة.
لكن، تتضح الرمزية أكثر من خلال لغتنا، التي تُجسِّد وتُعزِّز نظام القيم هذا.
يمكننا
وصف شخص بالقول: تصدر عنه رائحة "ألوهية"، "زكيّة"،
"لذيذة"، أو ببساطة "طيِّبة"، لكن، كل تلك الصفات عبارة عن
تقييمات وإصدار احكام أخلاقية. التوصيف، هنا، ككتابة وصفة أي يبدو كأمر مُلزم.
تتغير الروائح من كونها أحاسيس جسدية لتصبح تقييمات رمزية. بإختزال، لدى توصيف شخص
أو شيء كمُصدِر لرائحة طيِّبة أو كريهة فهذا يعني بأنّه شخص أو شيء خيِّر أو
سيِّء. على مستوى الأشخاص، ربما يمتلك قيمة علمية ما أو قد لا يتسم بالدقة، كما
سنرى؛ مع هذا، فهو عنصر إنشائي للبناء الأخلاقي للآخر والتمثيل الرمزي للأنا.
أدرك شكسبير الطريقة التي "نفكر بأنوفنا عبرها"، إذا جاز
التعبير، وبرع في رسم الصور الشمية، سيما تلك المرتبطة بالروائح الكريهة. ففي
هاملت، شمَّ مارسيلو "رائحة كريهة ما في الدانمارك". يلوم الملك نفسه
بعد قتله لشقيقه وزواجه من الأرملة، قائلاً:
"كم هو بشع ما إقترفته يدي! تصل رائحتها
الكريهة إلى السماء!"2.
تقول كونستانس كلاسن حول هذا الأمر، التالي:
"تُساهم
الطبيعة الجاذبة / المُنفِّرة للخبرة الشمية بجعل الرائحة وسيلة رمزية خاصة مفيدة
لتصنيف جماعات مختلفة بناءاً على القيم الثقافية، لأنها تستثمر أنظمة تصنيفية ذات
قُوّة إنفعاليّة حسيّة كبيرة"3.
لا يوجد شكّ بلعب الروائح الطبيعية (الجسدية) للأشخاص لدور بتحديد الهوية
الفئوية والفردية في تفاعلات الوجه لوجه. صحيح أنّ إطلاق الاحكام الشمية ليس
المعيار الأهمّ في التقييم الذاتي وتقييم الآخرين، وأهميته هنا – حيث يمكن إدراك
الإنبعاثات إعتباراً من قرب جسدي معين بين المتفاعلين – لكن، يجب تصنيف إدراكها
بمكانة أدنى من مكانة الإدراك البصريّ.
مع ذلك، الرائحة عبارة عن
معيار تقييم ذو أهمية في اللقاءات الإجتماعية على نحو دائم، فهي تُكمِّل أو تؤكد
الإنطباع حول شخص كنتيجة للتفاعل الحسيّ.
تساهم الرائحة – وإن بشكل غير واعي – بتحديد وتصنيف الآخرين الإجتماعيين أو
تُضاف لإضفاء الشرعية على هذه التحديدات والتصنيفات أو تعمل على تشكيل التحيُّزات.
يبقى التحديد الشمي للآخرين الإجتماعيين نموذجاً ثنائياً معروفاً (مستحب /
مكروه) ويتضمن تقييماً أخلاقياً بذات الوقت (خيِّر / شرير). يجب التنويه إلى أنّ
حضور رائحة كريهة، فعلاً أو توصيفاً، هو علامة على الفساد الأخلاقي ويعمل على
تبرير عمليات الطرد والإستبعاد؛ يساهم بخلق حواجز إجتماعية أو شخصية. في المقلب
الآخر، يُقال بأنّ الأشخاص النزيهين ذوي رائحة جسدية طيِّبة، لأنّ هذا يوحي بوجود
عالم داخلي لبق وأخلاقيّ لا تشوبه شائبة4.
يتبع
المصادر
1. Federico
Kukso, Odorama; Historia cultural del olor. Taurus. 2019
2. A sociology of smell, Anthony Synnott. The Canadian Review of Sociology
and Anthropology, vol. 28, nº 4, in November 1991
3. Classen, Constance: The Odor of the Other: Olfactory Symbolism and Cultural Categories. In: Ethos, 1992, 20, June, 133-166
4. Die soziale Konstruktion olfaktorischer Wahrnehmung. Eine Soziologie des Geruchs. Dissertation zur Erlangung des akademischen Grades des Doktors der Sozialwissenschaften an der Universität Konstanz. Vorgelegt von Jürgen Raab im September 1998
للإطلاع على مواضيع أخرى ذات صلة
(1) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(2) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(3) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(4) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(5) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(6) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(7) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(8) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(9) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(10) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(11) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(12) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(13) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(14) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(15) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(16) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(17) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(18) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(19) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(21) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(22) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(23) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(24) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
No comments:
Post a Comment