في هذا الجزء، سنتحدث حول مواقف الفلاسفة وأخصائيي علم الإجتماع المعاصرين المناهضة لحاسة الشمّ والروائح:
في القرن الثامن عشر، قسَّمَ إيمانويل كانط (1724 – 1804) الحواس إلى موضوعية وشخصانية. ضمن هذه الأخيرة، تتموضع حاستا الذوق والشمّ، مُعتبراً بأنهما "طرق أخرى كثيرة خارجية للدخول قد زودت الطبيعة بها الحيوان للتمييز بين الأشياء".
لم يتردد كلّ من كانط وهيغل (1770 – 1931) عن إقصاء كل ما له علاقة بحاسة
الشمّ من طروحاتهما الفلسفية والجمالية. حاسة الشمّ، لعدم قدرتها على التمتُّع
بالبعد التجريدي، لم تُعتبَرْ عاجزة عن توفير معرفة صحيحة للعالم، أي معرفة
مفاهيمية، بل لم تكن مناسبة لإقرار أيّ نوع مع الإرتباط أو العلاقة مع الجمال،
وبالتالي، ولا لأجل إعطاء المجال لظهور أيّ نوع من أنواع الفنّ.
فكَّرَ الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل بذات الطريقة، مؤسس علم الظواهر الأساسيَّة والذي هو، قبل كل شيء، مشروع مُجدِّد للفلسفة لتحويلها إلى علم دقيق وشركة جماعية.
جَهِلَ أحد تلاميذ هوسرل، ميرلو – بونتي، معنى الرائحة والطعم ويُميِّزُ في عمله علم الظواهر بين إدراك الأصوات والصور قائلاً بأنّ الإنسان "يُقيمُ في ظواهره السمعية ويعيش فيما يراه"1.
كذلك، في فترة لاحقة، ما بعد عصر التنوير، لم يُعاد الإعتبار إلى الحواس الأقرب (الذوق والشم واللمس) مقابل الحواس الأبعد (البصر والسمع). بل جرى نقل هذا الموقف إلى العلوم الحديثة مثل علم وظائف الأعضاء الحسي وعلم النفس الإدراكي، وبوقت لاحق، في علم الإجتماع. بالتالي، هذا ما يفسر إستمرارية دراسات العلوم الإجتماعية الخاصة بالبصري والسمعي وإنتشارها على نطاق واسع، في حين أنّ الدراسات العلمية الإجتماعية المتعلقة بحاسة الشمّ – رغم قلتها – تقع ضمن عالم الغرابة إن لم يكن عالم السخرية2.
وفقًا لديفيد بير3:
بالنسبة لجورج سيميل، الحياة الاجتماعية هي عبارة عن خبرة حسية. حاول سيميل،
بنجاح متفاوت، التفكير في الحواس أو الأعضاء الحسية المختلفة وكيفية تلاؤمها مع
التحليلات الإجتماعية. احتلت العين والأذن مكانة مركزية في الإهتمام، لكن، حظي
الأنف بإهتمام محدود.
بحسب أولغا سابيدو راموس4:
دون وعي منه، تحدَّثَ غيورغ أو جورج سيميل حول حاسة بصر "متفوقة" وحاسة شمّ ذات "مكانة متدنية".
بحسب جين ليفي5:
وُجِدَت حاسة الشم لدى الإنسان في مكانة وضيعة ضمن التسلسل الهرمي للحواس، حيث تدنت قيمتها مقارنة بحاستي البصر والسمع المتمعتين، منذ عصر التنوير وصولاً للآن، بالتفوُّق على جميع الحواس الأخرى.
بالإضافة إلى ذلك، تحدث أنتوني ساينوت6
عن هذه النقطة، قائلًا ما يلي:
على نحو أساسيّ، ليس هناك جمالية للرائحة في التقليد أو التراث الغربيّ. بالعموم، تتحدث النصوص الجمالية حول الجمالية البصرية والسمعية الموسيقية؛ ربما تتحدث حول الذوق وملامس الجلد والرخام أو النسيج، لكن لا تُشير إلى الرائحة.
شكَّلَ هيغل الإستثناء، فقد كتب حول الأنف وحاسة الشمّ في كتابه "مدخل إلى علم الجمال"، لكن، إعتبر بأنّها الحاسة الأدنى بين أربع حواس بشرية؛ فهو لم يشر إلى حاسة اللمس. مشى فرويد في ذات الطريق، فقد إعتبر بأنّ حاسة الشمّ عبارة عن حاسّة حيوانية مميزة وحاسة النظر هي الحاسة البشرية المهيمنة: فقد قادت وضعية الإنتصاب بالمشي إلى إستبدال الأنف بالعين. في الواقع، إعتبرت هيلين كيلر، العمياء والصماء إعتباراً من عمر سنة وسبعة أشهر، بأنّ حاسة الشمّ "كالملاك الساقط" وأصرَّت على "نُبْل هذه الحاسة التي قد نسيناها وإحتقرناها".
1. تدني مكانة حاسة الشم في التسلسل الهرمي للحواس؛ وهذا قد يفسر جزئيًا الغياب النسبي للبحوث الإجتماعية الخاصة بالروائح وحاسة الشم.
2. الشم هو أقل الحواس قيمة وبحثًا بين جميع الحواس.
3. سألت بعض طلابي:
”إذا كان عليك أن تفقد حاسة من حواسك الخمس، فأي الحواس الخمس ستختار؟
أجاب معظمهم، 78 في المائة منهم
(شارك 49 طالب في الإجابة):
حاسة الشم، تليها حاسة التذوق.
لكن، لماذا؟
لأسباب عديدة، مثل:
أجاب البعض بأن حاسة الشم غير مهمة نسبيًا وغير مفيدة لهم - بإستثناء إبلاغهم عن إحتراق الخبز لدى تحميصه. فيما قال آخرون إن حاسة الشم لديهم ضعيفة على أي حال، بسبب الحساسية ونزلات البرد ومشاكل الجيوب الأنفية وما إلى ذلك، لذلك، لن يفوتهم الكثير.
وأجاب البعض أن الكثير مما يشمونه كريهًا جدًا لدرجة أنهم يفضلون الإستغناء عن حاسة الشمّ. وقال آخرون إنهم إذا لم يستطيعوا الشم فلن يستطيعوا التذوق بشكل جيد، لذلك، لن يأكلوا كثيراً، وبهذا، يتمكنوا من الحفاظ على أوزانهم وأشكالهم المرغوبة! (ولكن، بدا منطقياً أكثر إستهجان المجيبين لحاسة الذوق أكثر من الشم، رغم تأثير الشم الهائل على التذوق).
وثمة مؤشر آخر على تدني مكانة حاسة الشم هو عدم وجود مفردات متخصصة للشم. فقد توصف الأشياء بأنها ذات رائحة لطيفة أو كريهة أو محايدة، لكن، لا يصف هذا سوى ردود الفعل الشخصية تجاه هذه الروائح.
كذلك، رأى ميشيل أونفراي7:
بأنّه في ظلّ حضور إستثناءات قليلة، إزدرى الفلاسفة، مثلهم بهذا مثل علماء الإجتماع، حاسة الشمّ وتجاهلوها وقلَّلوا من قيمتها.
إعتباراً من عصر الأنوار، إنخفضت قيمة حاسة الشمّ بوصفها مصدراً للمعرفة. فيما جرى تقدير حاسة النظر كثيراً، سيما على المستوى العلميّ، فهي الحاسة الأهمّ على مستوى ملاحظة وإكتشاف الطبيعة. نظراً لصعوبة قياس وتسمية وإعادة خلق الروائح، لم تُعتمَد على مستوى البحث العلميّ، وبهذا، تفقد حاسة الشمّ الاهميّة. ساعدت قدرة حاسة الشمّ الإنفعالية الحسية غير الدقيقة على إعتبارها تهديداً لجوانب العقل غير الشخصية. في مؤلفه حول الاحاسيس (العام 1754)، قد أشار الفيلسوف إتيين بونوت دو كونديلاك إلى: "أنّه بين جميع الحواس، تساهم حاسة الشمّ بصورة أقلّ على مستوى عمليات العقل البشريّ، كذلك، بالنسبة لعالم الطبيعة جورج لويس لوكلير، حاسة الشمّ غريزية أكثر من عقلانية، حملت طابع الحيوانية والهمجية، كائنات مثلها مثل النساء، وهي موضع تبخيس وإستغلال في الثقافة الغربية المعاصرة. أثار الشم والاستنشاق والاعتراف بالدور الشبقي لبعض الروائح الجسدية الشكوك8.
يرى روبرت آدامز أنه:
بالنسبة لكثيرين، لحاسة الشمّ جوانب مسلكية بهيمية جنسية، يمكن تلخيصها
بصورة كلبين يشمان بعضهما9.
أخيراً، يذكر نيلز بوباندت في دراسته "رائحة الأشياء: حاسة الشمّ وتشكيل الإشمئزاز في شرق إندونيسيا" التالي مؤكداً على الفكرة الأساسيّة الواردة أعلاه:
يُعلِنُ أحد النقّاد، بنوع من الابتهاج، بأنّ حاسة الشمّ يجب أن تصير
"حاسة ما بعد الحداثة" بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. هذا التصريح ليس
مفاجئاً لأنّ النقاد قد ركزوا مطولاً على العلاقة الحميمة القائمة بين حاسة النظر
والحداثة في الماضي. صدر النقد الموجه إلى "أنظمة الرؤية" في العمل
المسرحي الفني في الثقافة الغربية الحديثة، في المقام الأوّل، عن الفلاسفة
النيتشويين مثل مارتن هايدغر وميشيل فوكو وجاك دريدا، بحيث يقود تخصيص نقدهم
"ما بعد الحداثي" نحو التوجُّه البصريّ، بصورة طبيعية، إلى بحث توجهات
أخرى ذات أرضية "حسيّة إدراكيّة" أكثر إعتدالاً لأجل تعميق المعرفة.
أعتقد بأنّ بحثاً كهذا هو موضع شكّ كبير. تملك محاولات الحطّ من تفوُّق حاسة البصر
من خلال إستخدامات "ناجحة" لحاسة الشمّ، بالتالي، توجهاً نحو تقديم
تغيير جذريّ خال من التركيز على "عيوب حاسة البصر" بدلاً من تقديم مبحث
وجودي سياسي تفصيلي يطال طرقاً محددة للشمّ ثقافياً. تعكس النتيجة الواضحة حضور
ثنوية حديثة تُخلِّد التوجُّه القديم عوضاً عن إستبداله. ما يزال التعارض قائماً
بين حاسة البصر وحاسة الشمّ، بشكل جذريّ، في أعمال الحداثيين وأعمال من يعتبرون
أنفسهم ما بعد حداثيين10.
المصادر
1. AL‐AZHAR, Aromas de Leyenda como objeto de estudio. Editor: Editorial de la Universidad de Granada. Autor: Iluminada Pérez Frutos D.L.: GR 1936-2014. ISBN: 978-84-9083-107-6
2. Die soziale Konstruktion olfaktorischer Wahrnehmung. Eine Soziologie des Geruchs. Dissertation zur Erlangung des akademischen Grades des Doktors der Sozialwissenschaften an der Universität Konstanz. Vorgelegt von Jürgen Raab im September 1998
3.
David Beer, The sensory thresholds of modernity: Some reflections on Georg
Simmel’s ‘Sociology of the Senses’
4. Olga Sabido Ramos, The senses as a resource of meaning in the construction of the Stranger: an approach from Georg Simmel’s relational sociology.
5. Jane Levi, Engraved in the Mind: The Significance of Smell. The London Consortium.11 May 2012
6. A sociology of smell, Anthony Synnott. The Canadian Review of Sociology and Anthropology, vol. 28, nº 4, in November 1991
7. Onfray Michel, The contemplators of the nose, in the art of enjoying. Paris, Grasset, 1991, pp. 97.
8. Federico Kukso, Odorama; Historia cultural del olor. Taurus. 2019
9. Adams, Robert M. 1986 ‘The Nose Knows.’ The New York Review (November 20): 24-26
10. The Odour of Things: Smell and the Cultural Elaboration of Disgust in Eastern Indonesia. Nils Bubandt, University of Aarhus, Denmark ethnos vol. 63:1, 1998. © Routledge, on license from the National Museum of Ethnography, pp. 48 – 80
للإطلاع على مواضيع أخرى ذات صلة
(1) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(2) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(3) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(4) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(5) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(6) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(7) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(8) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(9) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(10) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(11) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(12) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
(13) علم إجتماع حاسة الشمّ والروائح
No comments:
Post a Comment