4.4 النسبوية الأخلاقية؟!
هل يُعثَرْ على "نسبوية أخلاقية" في
مجتمع جيد التأسيس؟
ماذا يعني تعبير "النسبوية الأخلاقية" بالضبط؟
هل تؤسس شيئاً، يتسم بكل هذا الفساد، كما يُعبِّرُ المؤمنون عنه؟
لكن، ما هي "النسبوية"؟
فالنسبي هو عكس المستمر الدائم، وأنا أسأل ما هو الشيء الذي يستمر على نحو
دائم في الحياة؟
لكن، في حال وجود "نسبوية أخلاقية"، فمما تتكوَّنْ؟
سأعطيكم بعض الأمثلة:
-
توجد "نسبوية أخلاقية"، عندما تعلن مؤسسة أن واحداً من أهم مبادئها
"محبة القريب" من جانب؛ فيما تضطهد وتعذب وتقتل كل من لا يقبل مقاصدها،
من الجانب الآخر.
-
توجد "نسبوية أخلاقية"، عندما تقول مؤسسة بأنَّنا جميعاً نتنعم بمبدأ
"حرية الإرادة وحرية الإختيار"، فيما تبحث ذات المؤسسة عن كل الوسائل
لعرقلة إستخدامه.
-
توجد "نسبوية أخلاقية"، عندما تصرِّح مؤسسة بأن كل ما في الطبيعه هو
"عمل الله"، ومن ثم تعتبر أن القسم الأكبر منها هو "مصدر
للخطيئة".
في آخر الأمر.... لكن، حذار!
"النسبوية
الأخلاقية" ليست ملك المجتمعات، بل هي ملك الجماعات المُمسكة بالسلطة.
المجتمعات ليست "نسبوية" أبداً (بالمعنى السلبي للمصطلح) في
تنظيمها، بالتالي، سيخضع هذا للتجاهل بشكل كامل.
تاريخياً، تبنَّت المجتمعات أخلاقيّات "تناسبها" وفق صيغ أفضل،
تسمح لها بالبقاء على قيد الحياة، وقد تعدلت تلك الصيغ حين إقتضت الضرورة.
تعتبر الأديان هذا الأمر فاسداً، فهي حاولت، ومازالت تحاول، دعم معيار أخلاقيّ
مطلق لا يتغير بمرور الزمن (يقول المؤمنون، بالعموم، آيات لكل زمان ومكان!!)، وهذا، في الواقع، مناهض لأدنى درجات التفكير السليم.
لكن، ما هي جوانب تلك "النسبوية الأخلاقية"، التي تُقلِق
الأديان؟
في الواقع، لا يوجد جانب خاص بعينه.
المُقلِق عملياً، هو كل العناصر العقائدية المستخدمة لإحكام السيطرة
"الأخلاقية" على المجتمعات، والتي حطمتها عنصراً إثر آخر، مثبتتة أنه
عند الحديث عن المحافظة على المجتمع، سيتقدّم العملي على العقائدي (النظريّ).
ترغب الأديان بفرض رؤيتها في حالات الطلاق والإجهاض والحرية الجنسية، ..
الخ.
لا يرتكز نضال الأديان، في يومنا هذا، على الدفاع عن المباديء كما يدعون،
بل على الإحتفاظ بنصيبهم من السلطة.
تتناقض عقائدهم مع توجهات مجتمع، قد إختار طريق العلم والمنطق والطبيعه.
ما تطلق عليه الأديان "نسبوية أخلاقية" ليس سيئاً، بل على العكس،
هو ضرورة لتطور كل مجتمع، بالنهاية، يبقى هذا مشروطاً بعدم تكرار ما جرى في ظل
سلطة الكنيسة، فلم يتقدّم المجتمع الأوروبي ميليمتر واحد على الصعيد العقليّ، بل
تراجع إلى العصر الحجري على الصعيد الأخلاقيّ!
حيث قضت الكنيسة على كل أشكال التقدم، الذي تحقق على يد اليونانيين
والرومان القدماء.
هكذا، عندما يوجه المتدينون تهمة "نسبويين أخلاقياً" لنا،
سنعتبره نوعاً من التملق، لأنه هو هكذا.
نحن يجب أن نحافظ على عقل مُنفتح وذهنية نقدية، يجب أن نتمكن من تعديل
سلوكنا أمام الحوادث المحتملة الوقوع، وبأن نتنعم بعزيمة ومرونة كافية للتقدم في
الحياة.
هم بالمقابل، يعبدون الجمود والسكون، الذي ينتهي ليشكل نوع من الكسل أو
الجبن والفشل، دون الأخذ بحسبانهم بأن نهاية كل جمود هو الفساد والتفسخ.
في الواقع، ما هو غير أخلاقي، هو التنكُّر للإحتياجات الحقيقية للأغلبيّة!
5.4 أخلاق الإتجاه الإنسانيّ العلمانيّ
من المألوف أن يقول المتدينون:
بأنّ الملحدين بلا أخلاق، شريرين
وغير جديرين بالثقة.
يُبنى هذا الحُكم القاطع على تعميم خاطيء، يعتبر
أنّ الأخلاق مؤسّسة على الإلاهيّات المُطلقة المعصومة والكاملة.
ومن المفارقات المثيرة، أنّه بكثير من الأحيان، تُفسَّرُ نصوصهم القداسيّة
بصورة حرفية بُغية تبرير جرائم كالرق والإبادة وحرمان الحقوق الأساسيّة.
مع ذلك، بيومنا هذا، توجد أنظمة أخلاقية لا تُميِّز عرقياً، جنسياً،
دينياً، قومياً، ولا بأيِّ مشهد إنساني آخر.
الإتجاه الإنسانيّ العلمانيّ هو أحد تلك الأنظمة.
الإنسانيّة العلمانيّة، هي تيار فلسفي باحث عن الحقيقة الفلسفيّة والاخلاق،
من خلال استخدام القدرات الفكريّة (الثقافيّة)، بُغية حلّ المشاكل التي تواجه
البشريّة.
تُدعَمُ أخلاقها، من قبل:
العلم، العقل والاختبارات بحثاً عن مباديء
موضوعيّة.
واعتباراً من المُلاحظة، بالإمكان تقييم التبعات الموضوعيّة للقرارات الأخلاقية والتأكُّد من صحّة نتائجها.
هكذا، يمكن للشخص أن يعيش عمراً سعيداً
مديداً، وأن يؤسّس قراراته على فهم واقعيّ للسلوك البشريّ، دون الخضوع ليوتوبيا
(المدينة الفاضلة) فوق طبيعيّة مُنقطعة عن التعايش الاجتماعي الراهن (مُنفصلة عن
الواقع .. بتعبير آخر).
عادةً ما يشكك الإتجاه الإنسانيّ العلمانيّ بما هو فوق طبيعي.
وفيما لو يجري الإعتراف بأهميّة الروحانيّات في البحث عن معنى ما للحياة، فلا يجري إعتبار هذه الخبرات ذات صلة بالألوهيّات الفوق طبيعية.
حيث يقوم، دون كلل
ولا ملل، بمحاكمة الرؤى التقليدية للإله وتفسيراته الرمزيّة والأسطوريّة، والتي
تنفع، من حين لآخر، كتسويغ أقليّة مُخادِعة، تترك الغالبيّة العُظمى من السكّان في
حالة بلبلة لاهوتيّة أعمق.
من الخطأ التفكير بأن أخلاق غير مبنية على الإله الواحد، هي بالضرورة مناهضة للمجتمع وغير موضوعيّة أو تُحطِّم المؤسسات الإجتماعيّة.
يتسامح الإتجاه الإنساني العلمانيّ مع التنوُّع بأنماط الحياة والسلوكيّات
الاجتماعيّة، لكن، هذا لا يعني بأنها بعيدة عن المُساءلة دوماً.
يُشجِّعُ هذا الطرح النموّ الأخلاقيّ منذ الطفولة، ويعمل على تأكيد قيم
التعايش الإجتماعي، ويمنع رجال الدين من إعلان الملكية الحصرية لها.
يتوجّب على التربية الأخلاقيّة في المدارس:
نُصرة الفضائل، رعاية الذكاء وخلق الميل نحو إمتلاك قدرة الإختيار الحرّ
والمسؤول.
لا يشكِّل الإتجاه الإنساني العلماني ديناً جديداً، بل هو منهج عقليّ يهدف
لاكتشاف وتطبيق المباديء الأخلاقيّة، هذه المباديء التي تفرضها الأديان على
الأطفال:
الغير متمتعين بالقدرة على المُحاكمة والقيام بالإختيار الحرّ.
وفيما لو يكن من الأهميّة بمكان، أن يعرف الشباب التاريخ الموضوعيّ
للأديان، فلا يجب أن يخضعوا للتلقين العقائديّ قبل بلوغهم أو نضجهم كفاية، لأجل
التقرير بأنفسهم فيما لو يؤمنوا أو لا بعقيدة أو بأخرى.
بهذا المعنى، يلتزم الإتجاه الإنساني العلمانيّ بالبحث العقليّ والمنطق
وفحص الأدلة بُغية تحصيل معرفة متجددة أو جديدة.
وعلى إعتبار أنّ الخطأ جزء من تركيبتنا كبشر، فإعادة الفحص والتدقيق هو شأن
مفتوح على الدوام ولكل الأفكار وأساليب التحقُّق ذاتها.
من السذاجة الإعتقاد بأنّ العلم والعقل يمكنها حلّ كل المشاكل، لكن، يجب الإعتراف بأنّ العلم والعقل:
قد حسَّنا نوعيّة الحياة كثيراً.
بهذا الإتجاه، يجري
تشجيع نموّ الذكاء.
أخيراً، والتزاماً بالحريّة، يشجِّع الإتجاه الإنساني العلمانيّ تحقيق الفصل بين الكنيسة والدولة.
لقد بيَّن لنا التاريخ بأنّه ما من مرّة سيطر فيها الدين أو منظومة فكرية ما على مفاصل الدولة، إلاَّ وساد الإضطهاد وإلغاء المُعارضات الصغيرة.
فالحملات الصليبية ومحاكم التفتيش وغيرها الكثير، ما هي إلاَّ أمثلة على
ذلك.
إنَّ أيَّة محاولات لفرض مفاهيم دوغمائيّة، غير منطقية، حول الحقيقة
والفضيلة أو العدالة على باقي المجتمع، هو خرق لحقوق الإنسان.
لا يجب على السلطات الدينية الكنسية فرض رؤاها، سواء كانت أخلاقية أو
سياسية واجتماعية، على كامل المواطنين.
بإجمال ما سبق، يطرح الإتجاه الإنساني العلمانيّ الآتي:
أولاً: التقييم الذهنيّ للأديان، التقاليد والإيديولوجيّات بصورة دائمة
وعدم قبول أيٍّ منها بعامل الإيمان.
ثانياً: إستخدام العقل، الأدلة والمناهج العلمية بدلاً من الإيمان
والتصوُّف، بُغية حلّ المشاكل وتقديم الإجابات للمُتسائلين البشر.
ثالثاً: ضمان نموّ الشخصيّة، القدرة على الخلق والإبداع وإتمام مطامح
الحياة، سواء عند الفرد أو عند البشرية.
رابعاً: البحث بثبات عن الحقيقة الموضوعية، مع تسجيل معرفتنا بنقص ما نعرفه
دوماً وأنّه يمكننا دوماً تحسينه وسدّ ثغرات معرفية على ضوء معطيات جديدة أو
مستجدة.
خامساً: الإعتراف بوجود حياة قائمة فقط، وإعطائها المعنى عبر فهمنا
لأنفسنا، فهمنا لإنجازاتنا الثقافية والفنيّة، وفهمنا للإختلاف بوجهات نظرنا
وإحترامه.
سادساً: البحث عن مباديء أخلاقيّة موضوعيّة لأجل حياة الفرد، المجتمع
والسياسة، ومحاكمة قدرتها على تحسين الرفاه البشريّ والمسؤولية الفرديّة.
سابعاً: تعزيز التبادل الفكريّ الحرّ، الإرادة الخيِّرة والتسامح، بُغية
تشييد عالم أفضل لنا ولأولادنا ولأجيال المستقبل.
يتبع
تنويه: مصادر الموسوعة كاملة في الجزء الأوّل
للإطلاع على باقي الأجزاء
الموسوعة الإلحادية (1) إعداد: أحمد فاسم الحاج إبراهيم - مُقدِّمة
الموسوعة الإلحادية (2) متابعة المُقدِّمة
الموسوعة الإلحادية (3) تعريف الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (4) متابعة تعريف الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (5) متابعة تعريف الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (6) ما يقوم الإلحاد به + شبح الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (7) ذهنية المُلحِد + الوصايا الإلحادية العشر
الموسوعة الإلحادية (8) لماذا يتحدث المُلحِد كثيراً حول الأديان والآلهة
الموسوعة الإلحادية (9) الإلحاد وتاريخ من الكفاح الطويل
الموسوعة الإلحادية (10) قصّة جديرة بالتذكُّر
الموسوعة الإلحادية (11) المُلحدون والموت
الموسوعة الإلحادية (12) البحث عن بدائل غير مادية
الموسوعة الإلحادية (13) الموت بحسب العلم
الموسوعة الإلحادية (14) إبيقور وتولستوي والموت
الموسوعة الإلحادية (15) كيف يواجه الملحدون الموت؟
No comments:
Post a Comment