8. العلاقة بين الإلحاد والزندقة
تحدثنا عن الإلحاد وتعريفاته
سابقاً، لهذا، كي نفهم العلاقة، حال وجودها، بين الإلحاد والزندقة، علينا البحث حول
تعريفات للزندقة الآن.
بحسب موسوعة العقيدة والأديان والفرق
والمذاهب المعاصرة:
"الزندقة: لفظ أعجمي معرّب،
أُخذ من كلام الفرس وعرِّب. قال ثعلب: "ليس زنديق، ولا فَرِزين من كلام العرب...
وليس في كلام العرب: زنديق، وإنما تقول العرب: رجل زَنْدَقٌ وزَنْدَقيّ؛ إذا كان شديد
البخل"، والزندقة الإسم، وجمع الزنديق: زنادقة، والهاء في (زنادقة) عوض عن الياء
في (زنديق). وقد اختلف في أصل كلمة (زنديق) بالفارسية، فقيل: هو معرّب (زنده كرد)؛ أي: الذي يقول بدوام الدهر، وقيل: إن الزنديق
نسبة إلى (الزند)، وهو تأويل لكتاب "الأفستا" الذي جاء به زرادشت إلى الفرس،
وكان من أورد في طريقتهم شيئاً بخلاف (الأفستا)، وعدل إلى التأويل الذي هو الزند قالوا:
هذا زندي، فأضافوه إلى التأويل، وأنه منحرف عن الظواهر من المنزل إلى تأويل هو بخلاف
التنزيل، فلما أن جاءت العرب أخذت هذا المعنى من الفرس، وقالوا: زنديق، وعرّبوه. هذه هي أهم الأقوال
في أصل كلمة (زنديق) في الفارسية، ولعل أقرب هذه الأقوال إلى الصواب هو القول الثاني،
والله أعلم. تعدّدت إطلاقات لفظ: (الزندقة) واختلف المراد بها، فأطلق على عدد من الفرق كالمانوية،
والثنوية، والدهرية، والسبئية، والجهمية، والإسماعيلية، كما أطلق ذلك على بعض أهل المجون
والخلاعة وغيرهم. وقد اختلف العلماء في
تعريف الزنديق، تبعًا لتعدد إطلاقاته، وذلك كما يلي:
1 ـ قيل: الزنديق هو: «الذي لا ينتحل
دينًا وينكر الشرائع»، قاله النووي وغيره.
2 ـ وقيل: هو: الثنوي القائل بوجود
إلهين، وبه قال الجوهري وغيره.
3 ـ قيل: إن لفظ الزنديق أخص من
لفظ المنافق؛ حيث يطلق على: المنافق إذا ظهر منه ما يدل على نفاقه؛ سواء كان ذلك بقول
أو فعل؛ كأن يؤلف كتابًا ينال فيه من الإسلام، أو يقول قصيدة، أو نحو ذلك مما يتبين
به نفاقه، وبهذا قال ابن حجر وغيره.
4 ـ وقيل: هو: المنافق، الذي يظهر
الإسلام ويبطن الكفر سواء أبطن اليهودية أو النصرانية أو غيرهما، وهذا هو المشهور عند
الفقهاء في كلامهم على قبول توبة الزنديق.
قال ابن تيمية رحمه الله:
"فأما الزنديق الذي تكلم الفقهاء في قبول توبته في الظاهر، فالمراد به عندهم:
المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر".
وهذا القول الأخير هو القول
الراجح في تعريف الزنديق.
لمّا كان أصل الزندقة في
الفارسية هو الانحراف عن الظواهر من الكتاب المنزل إلى تأويل هو بخلاف التنزيل، وكان
من يفعل ذلك يدعي أنه لم ينحرف عن الكتاب المنزل، أُطلق في الاصطلاح على كل من يدَّعي
الإسلام ويبطن غيره مما يظهر أثره على بعض أقواله وأفعاله.
الزندقة تطلق على معان عدة:
ـ قيل: تطلق على الذي لا
يؤمن بالحقّ تعالى وبالآخرة.
ـ وأطلقت على الثنوية القائلين
بإلهين: إله النور، وإله الظلمة.
ـ وتطلق على من خرج من الإسلام
إلى غيره.
ـ وتطلق على الملاحدة الذين ينكرون الآخرة والربوبية.
ثم صار بعد ذلك اسماً علماً
في الفقه يدل على من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، سواء كان كفره باعتقاد المجوسية الفارسية،
أم بالدهرية، أم بغير ذلك.
اتفق الفقهاء
على أن الزندقة كفر، فمن كان مسلماً ثم تزندق،
بأن صار يبطن الكفر ويظهر الإسلام، أو صار لا يتدين بدين، فإنه يعتبر كافراً".
أما في موقع الشيخ سفر الحوالي، فهناك
تأثيل آخر للزندقة:
" وقال آخرون: الزندقة مأخوذة
من كلمة (زندكي)، والعرب يقلبون الكاف قافاً؛ فإذا نطقوا أي علم أو كلمة غير عربية
فإنهم ينطقونها على قواعد لغتهم؛ ومعنى كلمة (زندكي): الحياة أو الزمان أو الدهر، والعرب
يسمون الذي لا يؤمن بالبعث (دَهري) بفتح الدال، أما (دُهري) بالضم فهي نسبة سماعية
على غير القياس، فالقياس أن النسبة إلى دَهْر (دَهْري) بالفتح، فالعرب تقول: (دَهري)
أي: لا يؤمن بالبعث، ويعتقد ببقاء الدهر، وأنه هو المتحكم في سير الخلائق، وقد حكى
الله ذلك عنهم بقوله: ((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا
وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ))[الجاثية:24]. فـالدهريون هم الذين لا يؤمنون
بالبعث ولا باليوم الآخر، فأطلق عليهم الزنادقة نسبة إلى كلمة (زندكي) وهي تعني الدهر.
ونستنتج مما تقدم أن الصحيح أن الزنديق: هو الدهري الذي لا يؤمن بالبعث ولا يؤمن بالله
ولا باليوم الآخر".
في كتابه "تاريخ وفكر الزندقة والزنادقة"،
يقول مؤلفه محمد عبد الحميد التالي:
" في تأثيل مُصطلح زندقة، يقول
هادي العلويّ بأنّه تطوير عربي للمُصطلح العبريّ صدِّيق ولا علاقة له بالفارسيّة. فيما
قال آخرون بأنّ تأثيله هو كلمة صدِّيقي الآراميّة، التي حولها الفرس إلى زنديق كصفة
للمؤمن بمذهب ماني. كثيرون هم الذين ظلموا في التاريخ، ظلمهم أناس حاقدون على كل فكر
حرّ، وكان شعارهم الأبديّ: "إن لم تؤمن بما أومن، فأنت زنديق" والزنادقة
قوم يؤمنون بالله وباليوم الآخر ويعملون صالح الأعمال، وكل ذنبهم أنهم أرادوا تلمس
طرق جديدة في الفكر والحياة، فوُصِمُوا بالزندقة كيلا يشكلوا وعياً يدعو نحو حياة جديدة".
أما رمسيس عوض، في مقدمة كتابه
"الإلحاد في الغرب"، فيتعبر:
أنّ الإلحاد والزندقة عبارة
عن ظاهرة قديمة جداً. علماً أنّه يذكر كثيراً مُصطلح "هرطقة" وكأنّ هذه المُصطلحات
عبارة عن مترادفات!
في كتابه "تاريخ الإلحاد في الإسلام"،
يقول عبد الرحمن بدوي التالي حول الزندقة والزنادقة:
"لفظ "زنديق" هو
لفظ غامض مشترك قد إستعملوه لتوصيف أشياء مختلفة. فبداية، أطلقوه على المؤمنين بالمانوية، ثم إتسع المعنى ليشمل كل صاحب
بدعة وملحد، بل وصل الأمر لإستعماله لتوصيف كل صاحب مذهب مخالف للمذهب السني أو من
عاش ماجناً من الشعراء وخلافهم. جرى إضطهاد الزنادقة إلى درجة القتل خلال الفترة الممتدة
بين 163 و170 هجري. كذلك، جرى إستعمال الزندقة لتوصيف المعارضين سياسياً تمهيداً للقضاء
عليهم. هناك خلط بين المانوية والتشيُّع والزندقة. لم يمت إبن المقفع لأنه زنديق، بل
مات وهو زنديق".
في كتابه "ديوان الزنادقة كفريات
العرب"، يذكر مؤلفه جمال جمعه الآتي:
"لم يهدأ تيار الزندقة في صدر
الإسلام بل كان يعبر عن نفسه، بين آونة وأخرى، على ألسنة الشعراء. وصل الأمر بالخليفة
المهدي، ثالث الخلفاء العباسيين، لإنشاء ديوان أسمه "ديوان الزنادقة" لغرض
مطاردتهم وتعقبهم، فأمر بالقبض على كل الزنادقة الموجودين في البلاد".
وقد نوَّهَ جمال جمعه
إلى مسألة إلتباس مفهوم "الزندقة" لدى المؤرخين العرب التقليديين ورواة
الاخبار.
الخُلاصة
في الواقع، وعلى
المستوى اللغويّ، ومهما تعددت المُترادفات لكلمة معينة، فسيحمل كل مُترادف معنى
مختلفاً عن المُترادفات الأخرى، فلا تحتمل أيّة لغة إستخدام كلمات مختلفة ممتلكة
لذات المعنى بدرجة 100%، هو أمر فاقد للقيمة وللمعنى معاً!
ينطبق ما ورد أعلاه على مُصطلحي أو كلمتي:
الإلحاد والزندقة.
بمقارنة تعاريف كليهما:
يصعب علينا القول بأنّ الزندقة،
بناءاً على ما ورد أعلاه، هي ذاتها الإلحاد إلّا لدى بعض مشايخ الإسلام وحاخامات
اليهودية ورهبان المسيحية والبوذية وسواها، الذين بالنسبة لهم لا فرق بين الكفر
والزندقة والهرطقة والإلحاد وسواها، وهو أمر مثير للإستغراب صراحةً.
بل هناك تفسيرات ومعاني
سياسيّة للزندقة، الأمر الذي يُقصيها عن الإلحاد تماماً.
يتبع
تنويه: مصادر الموسوعة كاملة في الجزء الأوّل
للإطلاع على باقي الأجزاء
الموسوعة الإلحادية (1) إعداد: أحمد فاسم الحاج إبراهيم - مُقدِّمة
الموسوعة الإلحادية (2) متابعة المُقدِّمة
الموسوعة الإلحادية (3) تعريف الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (4) متابعة تعريف الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (5) متابعة تعريف الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (6) ما يقوم الإلحاد به + شبح الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (7) ذهنية المُلحِد + الوصايا الإلحادية العشر
الموسوعة الإلحادية (8) لماذا يتحدث المُلحِد كثيراً حول الأديان والآلهة
الموسوعة الإلحادية (9) الإلحاد وتاريخ من الكفاح الطويل
الموسوعة الإلحادية (10) قصّة جديرة بالتذكُّر
الموسوعة الإلحادية (11) المُلحدون والموت
الموسوعة الإلحادية (12) البحث عن بدائل غير مادية
الموسوعة الإلحادية (13) الموت بحسب العلم
الموسوعة الإلحادية (14) إبيقور وتولستوي والموت
الموسوعة الإلحادية (15) كيف يواجه الملحدون الموت؟
الموسوعة الإلحادية (16) بخصوص الأخلاق
الموسوعة الإلحاديّة (17): الرئيسيّات والأنسنة والأخلاق
الموسوعة الإلحادية (18) النسبوية الأخلاقية وأخلاق الإتجاه الإنسانيّ العلمانيّ
الموسوعة الإلحادية (19) الأخلاق والإنتقاء الطبيعي والبحث عن الأخلاق لدى الرُضَّع
الموسوعة الإلحادية (20) الأخلاق فلسفياً والقيم بشرياً والقاعدة الذهبيّة
الموسوعة الإلحادية (21) الوظيفة الأخلاقية للدين والمشهد الأخلاقي لسام هاريس
الموسوعة الإلحادية (22) أصلُ النظرة السلبية للإلحاد وللملحدين
الموسوعة الإلحادية (23) هل الإلحاد عبارة عن دين آخر أو دين جديد؟
الموسوعة الإلحادية (24) الأدلة التي قادت الفيلسوف الفرنسيّ أندريه كونت سبونفيل إلى تبني الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (26) يُنهي أندريه كونت - سبونفيل كلامه حول الأدلة التي دفعته لتبني الإلحاد
















No comments:
Post a Comment