6.4 هل المباديء الأخلاقيّة: نتاج للإنتقاء الطبيعيّ؟
-
هل تؤمن بالله؟
-
لا، فأنا مُلحد. لا أرى أيّة حاجة له.
-
لكن، بهذه الحالة، ستفتقد لأيّ نوع من الأخلاق! وستبني أفعالك على أنانيتك ومزاجيتك
بشكل حصريّ، ما يعني، بكلمات أخرى:
أنّك غير أخلاقيّ!!!
هذه عيِّنة مألوفة من الحوارات، التي يطرحها المؤمنون، بالعموم ودون تعميم، دون كلل وملل، حيث تصدر، عادةً، عن أصوليين دينيين تابعين لأيّ دين كان.
ووفق هذه الطروحات، يزودنا الدينُ بالأخلاق حصراً، فيقدم بضع قواعد صحيحة لنا،
تتجلّى عند نظرائنا في الإيمان، كما يُشاع.
مع هذا، القضيّة ليست بهذه البساطة ولا على هذا الشكل.
ففي الواقع، أُثبِتَ الطابع الكونيّ للمباديء الاخلاقيّة الأساسيّة في جميع
الثقافات وعند أشخاص مؤمنين أو ملحدين وسواهم.
من أحدث الدراسات المحقّقة حول هذه القضيّة، دراسة قد حققها عالم الأحياء مارك هوزر من جامعة هارفارد، حيث نُشرت أعماله في كتابه:
"العقول الأخلاقيّة: كيف تصمم الطبيعه شعورنا
الكونيّ تجاه ما هو صحيح وما هو خاطيء"، حيث ترتكز على ما يسميه مُعضلات أخلاقيّة،
حالات أقلّ وهميّة وتطرُّف، والتي يجب، خلالها، تقييم الموضوع، وفيما لو يشكِّل حلّ
مُقترح معقول أو لا.
وفق طروحات هوزر (التي يُشير ريتشارد داوكينز إليها في كتابه الشهير "وهم
الله او وهم الإله") حول معضلة الترامواي التي تحدثنا عنها هنا، فإنّ 90% من الأشخاص
سيقومون بالتضحية بشخص مقابل إنقاذ خمسة أشخاص، وبصورة مستقلّة عمّا اذا كانوا متدينين
أو ملحدين.
ويحصل ذات الشيء في حالة مُعضلات أخلاقيّة أخرى.
يقترح هوزر، وبطريقة ما، أنّ الانتقاء الطبيعيّ قد أنتج عند الكائن البشريّ
نوعاً من القاعدة الأخلاقيّة الكونيّة، والتي تسهِّل لنا اتخاذ قرارات سريعة، في حالات،
تواجهنا مُعضلات أخلاقيّة خلالها.
ففي مقابلة مع مجلّة ديسكفر، يضع قياساً، ينسجم مع أفكار نعوم تشومسكي، التي
تقول:
بأننا نمتلك نحن البشر، بصيغة غريزيّة،
بضع قواعد كونيّة، باتجاه أنّنا عندما نعبِّر لا نبحث بشكل إراديّ عن البُنى القواعديّة
تلك، بل ستجد تلك القواعد طريقها إلى دماغنا بصورة لا واعية.
هذه الأخلاقيّة الأوليّة خاصة بالطبيعة البشريّة، فحتى الأطفال بعمر 15 شهر،
سيتفاعلون مع رغبات الآخرين.
من الجوانب، التي تجعل من الأخلاق خاصيّة تكيفيّة، هو أنها تعطي مستوى ملموس
من الإنتماء للجماعة.
يوجد إعتقاد تعميميّ، يعتبر:
الدين مُرادف للأخلاق، وبأنّه في
حال كونك مُلحد، فستفتقر بشكل كليّ للأخلاق، وتعليقاً على هذا الطرح، يقول هوزر:
بأنّ هذا خطأ محض، ففي كثير من
الحالات، تتطابق المحاكمات الأخلاقيّة لدى مؤمنين، قد تلقوا تعليماً دينياً هائلاً،
ولدى مُلحدين وسواهم.
يخصِّص ريتشارد داوكينز، في كتابه "وهم الإله"، جزءاً من فصل حول
هذه القضيّة وحول هذا الكتاب.
وما يستخلصه منه، عبّر عنه في هذه
الجملة:
"لا
نحتاج لإله، لكي نصير جيدين أو سيئين (خيِّرين
أو شريرين)!".
7.4 البحثُ عن نظام أخلاقيّ عند الأطفال الرُضّع
أجرى فريق من علماء الأعصاب وعلماء النفس إختباراً في جامعة ييل، لتحقيق
معرفة أعمق حول نظرية العقل لدى الأطفال.
تعلق الإختبار بموضوع مثير وغير مدروس كثيراً، هو:
الأخلاق عند الأطفال الرُضّع.
ففي عدد 2 أيّار العام 2010 من صحيفة النيويورك تايمز، كتب بول بلوم أحد
الباحثين المشاركين في الدراسة وصفاً لأبحاثهم، التي تُعتبر من الدراسات القليلة
التي تتطرق لهذه المواضيع الشائكة في العالم كلّه.
يعمل بلوم في مختبر زوجته وزميلته في العمل كارين وين، في مركز إدراك الطفل
في جامعة ييل، حيث يقومون بأبحاثهم، إضافة لطالبة الدراسات العليا كيلي هاملين،
التي تُعتبر الباحثة الرئيسية بهذه الدراسات.
تقول كيلي:
"لقد فتنتني فكرة التحقّق من قضايا، مثل:
كيف يتآلف عمل علم الأحياء التطوري والخبرة الثقافية، لأجل صياغة ما هو قائم في
طبيعتنا البشريّة".
أحد أروع المواضيع في علم النفس وعلم الأعصاب
الحديث، هو:
الصيغة، التي نفهم عقل الآخرين من
خلالها.
نظرية العقل تلك، والتي تمنحنا خاصيّة إمتلاك التشاعر أو التقمُّص الوجداني، تُدرَسُ، اليوم، من خلال مرآة نظام العصبونات.
رغم أن الكثير من الفلاسفة، يعتبرون أنّ كل ما يتصل بالأخلاق هو شأن ثقافي،
توجد، الآن، مجموعة من الأدلة التي تُوحي بوجود نظام بدئي للأخلاق، يُولد معنا على
ما يبدو.
لهذا السبب، يلجؤون إلى العلوم لدراستها عند الأطفال الأصغر سنّاً.
يُرجعنا علم النفس الحديث إلى
الطفل الأقل بلاهة من الطفل الذي حدّثنا عنه جان جاك روسو العام 1762.
يؤكد بلوم بأن السبب وراء إستمرار تلك الأسطورة، هو أن الباحثين لم يعرفوا
كيفية دراسة الحياة الثقافية لدى هؤلاء الأطفال.
يتابع بلوم كلامه، فيقول:
"ليس
لدراسة الأهليات الإدراكية لأي كائن لغة: هو تحدٍّ؛ لكن، يوجد لدى أطفال البشر صعوبة إضافية، لأنهم
وبالمقارنة مع صغار الفئران أو الطيور، فهم ذوو سلوك محدود أيضاً، فلا يمكنهم حلّ
الكثير من أمورهم دون مساعدة".
منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضي، بدأ علماء النفس البحث لفهم الطفل،
فدرسوا عيونه، وتحديداً ما يشدّ نظراته وما لا يلفت إنتباهه.
وفعلياً، وبما يُخالف ما ساد سابقاً، ولعقود عديدة، يشرح بلوم، قائلاً:
"لدى
الأطفال تصوُّر شبيه بتصور البالغين حول الأشياء، فهم يفكرون بأنها عبارة عن كُتل
متصلة، تتحرك كوحدات متماسكة خاضعة للجاذبية، وتنتقل بإستمرار في الزمان
والمكان".
في زمن لاحق، العام 1992، اكتشفت وين بأنّ الأطفال يمكنهم تحقيق عمليات
حسابية بدائيّة للأشياء المحيطة بهم.
فيما تركزت إختبارات أخرى على ملامح الوجوه وإنفعالاتها، فتعلو وجوههم
الإبتسامة، عندما يُخرج أحدهم لسانه، وهنا، نعود إلى الإيماء، فقد بيّنت دراسات
محققة، من فترة قريبة، بأن نظام العصبونات المذكور أعلاه، يعكس تلك الرابطة
مباشرة، والتي نمتلكها كبعض الرئيسيات، لأجل المحاكاة والتقليد ووضع أنفسنا مكان
الآخر.
تُشير الدراسات العصبية المتصلة بالدماغ البشري الفتيّ لأننا نأتي للحياة
مع شبكة من الأسلاك الضرورية، التي ترشدنا للإنتباه نحو الأشياء، وتسمح لنا، على
وجه الخصوص، بالتعلُّم.
فلا نصل الى العالم مع دماغ فارغ، بل يأتي الدماغ مزوداً بكثير من الأشياء
ونبدأ بإستعماله منذ اليوم الأول لحياتنا.
دراسة الأخلاق كشأن فطري، مع هذا، مستحيلة تقريباً.
تؤكد لنا الأدلة بأن الأخلاق البشرية هي ثقافيّة في الغالب، ويصعبُ العثور
على نقطة أخلاقية كونيّة.
يقول بلوم بوجود إتجاه عام حول ماهيّة الخير
وماهيّة الشرّ.
"ففي كل المجتمعات، يوجد إتجاه واضح نحو
العدالة والدماثة، أيضاً، هناك في كل الأنحاء إمكانية التفريق بين أفعال جرمية
وأخطاء ظرفية، تسمح بتصنيفنا إلى أشخاص جيدين وخطأة. تمتلك تلك الحقائق الكونية
معنى تطوريّ، فهي تناسبنا فنتصرف بشكل جيد مع عائلاتنا وأعضاء مجتمعنا، وبهذه
الصيغة، نعزز الرفاه للجميع، كما أننا نزيد من إمكانية إنتقال جيناتنا".
تُظهِرُ الشمبانزي، كما الأطفال، صفات "إيثارية"، تترك اللعب
لأجل مساعدة الأغراب بمهام مختلفة، وليس هذا فقط، بل يبكي الأطفال أكثر، عندما
يستمعون لبكاء أطفال آخرين؛ تماماً، كتوتُّر بعض الفئران عند سماعه لصراخ البعض
الآخر، ووقتها، يقومون باللازم، أو المُتاح، لوقف هذه المشكلة.
يتابع بلوم شرحه، فيقول:
مع هذا، فالأخلاق أكثر تعقيداً من حالة إيثار أو رأفة:
"نشترك
بالأخلاق مع الخبرة، مع عقائدنا، مع حرية الإختيار والذهاب لأبعد مما تقوله سلطة،
أو مرجعيّة، ما. فيعرف الطفل بسن الرابعة الخطأ، ويظلّ خطأ بالنسبة له، حتى لو
قالت الآنسة بأنه صحيح. بالتالي، تتركّز أوائل إختباراتنا حول الأخلاق عند
الأطفال، لمعرفة فيما لو أنهم يعرفون الفارق بين أحد يقدم العون وآخر يمتنع، وأيّ
الشخصيتين يفضلون".
مفهوم بدائي للخير والشرّ
في إختبارات جامعة ييل، إستعملوا دمى هندسية وحدث بسيط.
حاولت كرة حمراء صعود تلّة، فحاول مثلث أخضر عرقلة تقدمها دافعاً إياها من
الأعلى إلى الأسفل، كي لا تصعد، لكن، ساعدها مستطيل أصفر دافعاً إياها من الأسفل،
كي تعود لتحقيق هدفها بصعود التلّة.
لتفادي المشاكل مع التحليل التالي، وكي لا ترتبط النتائج مع اللون والشكل
الهندسي، عرض الباحثون على نصف الأطفال الحدث المتمثل بالمثلث كمساعد، وعلى النصف
الآخر من الأطفال المثلث ذاته كعائق. وبعد إنتهاء الأطفال من النظر إلى الدمى، حمل
الباحثون الحالتين وعرضوها على الأطفال ليكتشفوا ما الذي يفضلونه، ولاحظوا أن
أغلبية الأطفال قد فضلت النموذج المُساعد لا المُعيق.
يخبرنا بلوم عن تفصيل مهم آخر، في اللحظة التي إختار الطفل خلالها، حيث
أغمض الأب المرافق له عينيه، والشخص الذي حمل العلبة لم يحضر العرض، تفادوا حصول أيّة إشارة، قد تؤثر على إختياره.
ينوه بلوم إلى أن إختبارات أخرى
حصلت بإدخال عنصر حيادي، لم يساعد ولم يُعيق، ببساطة لم يعمل شيئاً.
"هكذا، وضعنا معادلات أعقد، نختبر الأطفال
بعمر يمتد من 6 الى 10 أشهر، فنراهم يفضلون شخصية جيدة على الحيادية، كما يفضلون
الحيادية على المُعيقة. لا يمكننا الإستنتاج بأنّ الأطفال يعرفون ما هو السيء وما
هو الجيّد، لكن، نعم، يفضلون الجيّد على السيء، بحيث يبنون موقفهم على التعامل
الذي يمارسه الآخرون أمام أعينهم".
الجماعة، عمليّة العطاء والأخذ
حين نتحدث عن الأخلاق، فإننا نتحدث عن العدالة.
نرى بوجوب مكافأة الأشخاص العاملين للخير وعقاب العاملين للشرّ.
حقق الباحثون إختبارات أخرى للحصول على إجابات
على أسئلة أعقد.
أراد الباحثون معرفة أيّة شخصية يفضل الطفل، شخص يقدم جوائز للجيدين ويعاقب
السيئين أو شخص يقدم جوائز للسيئين ويعاقب الجيدين؟
لقد إختبروا هذا الأمر مع أطفال بعمر 8 أشهر،
وإكتشفوا أنه بحضور الألعاب، أيضاً، ستحضر سلوكيات مُفاجئة.
"فضّل
الأطفال الشخص الذي منح الجوائز للجيدين، الممتع تمثَّلَ بعقاب أو منح جائزة
للشرير. لم يهمهم فيما لو أن الشخص الذي قدم الجوائز للاشرار جيّد، فإختار
الأطفال، دوماً، الشخص الذي عاقب السيء، وإن كان سيِّئاً".
بالنسبة للباحث بلوم وزملائه، لاحظ الباحثون حضور نظام بدائيّ في دماغ
الطفل يطال العناصر الأساسية لأخلاقنا، حول ما هو شرّ وما هو خيِّر (أو ما هو سيء
وما هو حسن)، سجَّلوا تفضيلاتهم للأشخاص الجيدين وميلهم لتحقيق العدالة أو معاقبة
السيئين، ودون الإهتمام بمصدر تلك العدالة.
يتبع
تنويه: مصادر الموسوعة كاملة في الجزء الأوّل
للإطلاع على باقي الأجزاء
الموسوعة الإلحادية (1) إعداد: أحمد فاسم الحاج إبراهيم - مُقدِّمة
الموسوعة الإلحادية (2) متابعة المُقدِّمة
الموسوعة الإلحادية (3) تعريف الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (4) متابعة تعريف الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (5) متابعة تعريف الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (6) ما يقوم الإلحاد به + شبح الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (7) ذهنية المُلحِد + الوصايا الإلحادية العشر
الموسوعة الإلحادية (8) لماذا يتحدث المُلحِد كثيراً حول الأديان والآلهة
الموسوعة الإلحادية (9) الإلحاد وتاريخ من الكفاح الطويل
الموسوعة الإلحادية (10) قصّة جديرة بالتذكُّر
الموسوعة الإلحادية (11) المُلحدون والموت
الموسوعة الإلحادية (12) البحث عن بدائل غير مادية
الموسوعة الإلحادية (13) الموت بحسب العلم
الموسوعة الإلحادية (14) إبيقور وتولستوي والموت
الموسوعة الإلحادية (15) كيف يواجه الملحدون الموت؟
الموسوعة الإلحادية (16) بخصوص الأخلاق
الموسوعة الإلحاديّة (17): الرئيسيّات والأنسنة والأخلاق
الموسوعة الإلحادية (18) النسبوية الأخلاقية وأخلاق الإتجاه الإنسانيّ العلمانيّ
No comments:
Post a Comment