2.4 الرئيسيّات والأنسنة والأخلاق
في الجزء السابق، ذكرنا كتاب "الرئيسيّات والفلاسفة" للأخصائيّ
بعلم الرئيسيّات من أصل هولندي فرانس دي فال، والذي يتكوَّن من محاضرات قد ألقاها
بجامعة برينستون العام 2004، علماً أنّ هذه المحاضرات قد أتت بسياق محاضرات حول
الأنسنة، كانت قد بدأت منذ شهر تموز العام 1978 من قبل أوبرت كلارك تينر، الذي
حدّد هدف تلك المحاضرات، وهو:
البحث عن فهم أفضل للسلوك وللقيم البشرية.
يتكوّن الكتاب من عرض أوّلي فيه وجهة نظر فال حول جذور الأخلاق البشرية.
ويشترك معه أربعة فلاسفة، هم:
فيليب كيتشر، كريستين كورسغارد، بيتر سينجر وريتشارد رانغام.
بالإضافة إلى الصحفي روبرت رايت، الذي إشتغل على الأخلاق البشرية في كتابه الحيوان الأخلاقي، يصوغ فال، بالنهاية، نصّاً يمزج فيه بين آرائه وبين ردود
زملائه.
يُشرك كل المساهمين بالعمل نظرية التطوُّر إنطلاقا من وجهة نظر علم
الأحياء، ويتقاسمون رؤية الخير، أخلاقياً، بوصفه شيء واقعيّ يمكن صياغة تأكيدات
حوله، وأنه يلقى التقدير من قبل الآخرين.
وفي صورة معاكسة، الشرّ عبارة عن صيغة أنانيّة، تقود للتعامل مع الآخرين
دون إهتمام بمصالحهم وإعتبارهم مجرّد وسائل أو أدوات.
يتولّد سؤال إنطلاقاً من وجهتي النظر، ودون الدخول بتبريرها وفق رؤى
لاهوتية أو دينية، هو:
فيما لو تشكِّل مصلحة الفرد عنصراً فعالاً بالإنتقاء الطبيعي، فلماذا نتعلق
كبشر بقيمة الخير، ونسلك بمناسبات محددة بعيداً عن مصلحتنا الفردية ووصولا للتضحية
بالنفس حتّى؟
يوجّه فال سهام نقده إلى نظرية أخلاق القشرة، والتي تعتبر بأنّ:
الأخلاق عند
نوعنا الحيّ، هي بمثابة قشرة رقيقة ملوّنة تغطي لبّ لا أخلاقيّ.
ويتفق هذا مع ما طرحه هكسلي، فبحسب هذه النظرية:
البشر أشرار وبهيميون وأنانيون ويميلون
لممارسة الشرور مع الآخرين، لكن، هناك فوق تلك الطبيعة، توجد القشرة الأخلاقيّة،
المشار لها أعلاه، ومن أصل غير محدّد.
يرفض فال هذا الطرح، فبالنسبة له، الكائن
البشريّ، عبارة عن كائن طيِّب، ولتلك الطيبة – التي ليس لها صورة أخرى – سياق بيولوجي وتطوريّ، ويمكن التنبُّه لها عند
أقاربنا الأقرب (الرئيسيات) وحتى عند ثدييات إجتماعية أخرى.
نتقاسم كقرود كبرى إستجابات لا إرادية (غير مختارة ولا خاضعة للتفكير
المُسبَق)، قيِّمة فيزيولوجياً (قابلة للملاحظة) مقارنة بظروف آخرين.
التشاعر قسم أساسيّ من تلك الإستجابة، وهي بالنسبة للباحث فال مثل عدوى تعاطف، تسمح بتحديد إحتياجات الآخر.
يٌلاحَظ التشاعر عند أنواع حيّة مختلفة، كذلك،
يُلاحَظ شعور الإستلطاف عند القرود الكبرى فقط، ويرتبط مصطلح الإستلطاف، بحسب آيزنبرغ، بمفهوم أوسع، يطال الإستجابة
الإنفعالية القائمة على مشاعر الحزن أو القلق من قبل فرد تجاه فرد آخر، قد عانى من
الحزن أو القلق.
بالنهاية، يمكن تحديد التشاعر كشعور بما يشعره الآخر، لكن، يُعتبر مفهوم
الإستلطاف تحضير لاحق، شعور بالكيفية التي يشعر بها الآخر.
الإستجابات العاطفية، والتي من بينها التشاعر:
هي قاعدة الأخلاق.
وإلى جانب التشاعر، لدينا الإيثارية التبادلية والتي تُعتبر آليّة تطورية
في علم الأحياء حالياً، أو إمتلاك الإحساس بالعدل، الذي إستشفه فال تجريبياً من
سلوكيات القرود.
بالتالي، أخلاقيات البشر، عبارة عن إستمرارية سلوك حاضر لدى حيوانات أخرى، هي
تكوينية وبيولوجية ولا تنحصر بنوعنا.
يصوغ فال، بالنهاية، ردّه على زملائه عبر إدخال مفهوم دائرة الأخلاق، حيث
يؤكد بأن الأخلاق ظهرت، تطورياً، في البداية، للتعامل ضمن الجماعة ذاتها، ثم
للتعامل مع جماعات أخرى بوقت متأخِّر، وصولا لإنتشارها بشرياً، وبالنهاية، عولمتها
وإمتداد مجالها ليشمل التعامل مع حيوانات أخرى.
يقول فال بأن دائرة الأخلاق تتسع أكثر وأكثر، فقط، عندما تؤمِّن الحفاظ على
الصحة والبقاء على قيد الحياة بمستويات ودوائر داخلية أكبر.
فعندما تقلّ الموارد، ستتقلص تلك الدائرة وستطال السلوكيات الأخلاقية
الأكثر قرباً، ويتفق هذا مع تأكيدات بيتر سينجر، بقوله أن إزدياد الغنى يعني
إزدياد الإلتزام بالمحتاجين.
أو كما تساهم أزمات إقتصادية راهنة بدفع السكّان
لتخفيض مساعداتهم ودعمهم لمنظمات داعمة لإحتياجات المعوزين.
بكل الظروف، تتوجّه المساعدات في الأزمات إلى الأقرب، وهي إلتزامات وواجبات
أساسيّة، ويعتبرها فال واجب أخلاقيّ أساسيّ.
يعتبر فال بأن تطوُّر الأخلاق، يتأسس على ثلاثة مستويات:
المستوى الأوّل: الشعور الأخلاقيّ المتكوِّن من التشاعر والتبادل، لكن،
كذلك، المتكوِّن من المُحفِّزات وحل النزاعات وإمتلاك الإحساس بالعدل. ويحضر هذا
المستوى عند البشر والرئيسيات.
المستوى الثاني: الضغط الإجتماعي، وهو الموجّه لكل أعضاء الجماعة للسلوك
التفضيلي لحياة تقوم على التعاون. وتشكلت الأدوات التأسيسيّة من تقديم المكافآت و
تحقيق العقاب وإكتساب الشهرة (وتشكل كلها عناصر تحكُّم وضغط إجتماعي). يوجد هذا
المستوى عند رئيسيّأت أخرى، لكن، خير الجماعة أو المجتمع، بمجمله، هو بُعد إنساني
بحت.
المستوى الثالث والأخير: القدرة على المحاكمة الذهنية، أي القدرة على فهم
حاجات الآخرين، بحيث يقوم هذا الفهم على توجيه سلوكنا الخاص ليصير سلوك منطقيّ. هو
بُعد بشريّ محض.
3.4 تأتي أخلاقيّات الإنسان من القرود
للأخلاق أصل حيواني لا بشريّ ولا إلهي!
فلا يسوع ولا روسو ولا هوبز، بل القردة شيتا أو داروين:
هما ما يجب ربطهم بمسألة الأخلاق.
لأخلاق البشر ماضٍ تطوريّ مرتبط بالسلوك
الإجتماعي لا الديني ولا الفلسفيّ.
هذا ما يطرحه الأخصائيّ بعلم الرئيسيَات فرانس دي فال في كتابه الأخير
"البونوبو والملحد".
"
فكثير من النماذج التي نعتبرها (أخلاقيّات)، تأتي من تطوُّر الأنواع الحيّة"،
بحسب دي فال.
إثر دراسته للرئيسيّات لمدّة 40 عام، يؤكّد فال بأنّ ما يعتبره الكائن
البشري "أخلاقاً":
هو من أقرب الأشياء للسلوك الإجتماعي لدى القرود
وأبعد ما يكون عن فرض إلهي أو طرح فلسفيّ.
بالنسبة له، لا تمرّ الأخلاق عبر قرار يؤخَذْ أو يُفرَضْ من الأعلى –
الفلسفة، الدين أو حتى السلطة – بل هي عبارة عن شيء فطريّ يميّز السلوك الإجتماعي
البشريّ.
ليس الأمر، هكذا، فقط:
بل هو غير حصريّ فينا، بل هو جزء من "حزمة إجتماعية" حاضرة لدى
حيوانات أخرى، مثل أقربائنا الرئيسيّات.
بحسب دي فال:
قُطبا الأخلاق، هما:
التعامل بالمثل والعدل من جانب، التشاعر والرأفة من جانب آخر، ويحضر
القطبان في السلوك الإجتماعي للقرود، وهو
ما يُتحدث حوله في الكتاب بإستفاضة.
أخلاقيّات الرئيسيّات
يميّز فال بين درجتين أخلاقيتين بسلوك تلك الحيوانات، هما:
الدرجة الأولى، والمسماة بأخلاق "واحد إلى واحد"، والتي ترتبط
بالكيفية التي يأمل أو ينتظر الفرد أن يُعَامَلْ بها.
فقد أكّدت دراسات فال ودراسات باحثين آخرين:
بأنّ الشمبانزي والبونوبو يحترمان مفهوم الملكية
والتعامل مع أقرانهم بحسب تراتبية معيّنة ضمن جماعاتهم.
مع ذلك، فيبدو أنّ لدى الكثير من الأنواع الحيّة الأخرى نظاماً مشابهاً،
بالتالي:
متى يصبح السلوك الإجتماعي أخلاقي؟
يكمن مفتاح القصّة، بإنتظار تلك الرئيسيّات لمسألة إحترام
"حقوقها" ومعاملتها بحسب مكانتها بتراتبيتها في الجماعة. حيث تُبدي،
بوصفها حيوانات إجتماعية، الإمتنان وحتى يمكنها إمتلاك الميل نحو الإنتقام وذلك بناءاً
على سلوكيات الآخرين تجاهها.
الدرجة الثانية للأخلاق، والمسماة "القلق الإجتماعي"، وترتبط
بمفهوم أكثر تجرّداً، يتضمَّن الإتجاه نحو إنسجام الجماعة بوصفها وحدة
متماسكة.
بالرغم من بدائيتها، لدى القرود صيغ محددة من درجة الأخلاق هذه عند تقاسم
طعامها، تهدئة جيرانها وحتى "التدخُّل" في صراعات أفراد آخرين لتفادي
حدوث البلبلة في الجماعة.
في حديث لدي فال قبيل نشر كتابه، شرح نقطة قد شدّت إهتمامه لدى دراسته
الرئيسيّات:
هي محاولتها التوفيق فيما بينها إثر حدوث صراع.
حيث يؤذي الصراع العلاقات
القيِّمة، ولهذا، لا بُدَّ من فعل شيء إزاءه.
يتجه كل شيء نحو قبول – وتعاون – إجتماعي.
لقد تطورنا كبشر، كحال أقربائنا القرود، في جماعات صغيرة، حيث شكّل التعاون
شأناً جوهرياً. فقد صار الإحساس بالإحتياجات والأعمال والتشجيع لدى باقي أفراد
الجماعة:
شأناً حيوياً.
وبحسب فال، هذا لا صلة له بأيّ قرار أو فرض إلهي، بل يتصل بالبقاء على قيد
الحياة بشكل أساسيّ.
أشار فال إلى أنّه:
"لدينا
ككائنات بشرية كل أنواع الأنانيّات والنزاعات الفردية، التي نحتاج إلى إيجاد حلول
لها لتحقيق قيام مجتمع تعاونيّ. ولهذا، بالضبط، لدينا الأخلاق ولا حاجة للنحل
والنمل لها".
مع ذلك، مصدر الأخلاق ليس فلسفياً من طراز طروحات هوبز في كتابه اللفياثان،
فالمثل الشهير "الإنسان هو ذئب الإنسان" غير عادل.
فجماعات الذئاب عبارة عن حيوانات متعاونة، كما البشر، ويتشاطرون المشاعر،
وفق ما أكّده دي فال.
يحضر الجدل الدينيّ، رغم عدم تأثير الله ولا الفلسفة بنموّ السلوك
الأخلاقيّ؛ مع هذا، لا تلقى نتائج دراسات
فال الصدى، الذي تستحقه بين الفلاسفة وأخصائيي علم الإنسان وحتى
الإقتصاديين، بحسب فال نفسه.
حسم أولئك القول بأنّ العدالة عبارة عن مفهوم معقد كثيراً ولا يمكن
للحيوانات إمتلاكها.
لدرجة أنّ فيلسوفاً قد كتب لي شاكياً، بأنّه من المستحيل على القرود أن
تمتلك الاحساس بالعدالة، فقد ظهر هذا المفهوم خلال الثورة الفرنسيّة!!!
ويُشير فال لأنّ كتابه هو رد فعل على مجتمع كالمجتمع الأميركي، الذي تربط
غالبيته الأخلاق بالدين بصورة مباشرة.
خصّص الكاتب فصلاً كاملاً عن الإلحاد في كتابه.
حيث يتفق مع ضرورة تخفيف دور الدين:
من خلال تركيز أقلّ على فكرة الله القادر
على كل شيء، وتركيز أكبر على القدرات البشرية، لكن، هذا لا يبدو كافياً لبعض الملحدين.
فلقد إنتقد ممثلان بارزان للإلحاد هما بي زيت مايرز وأنتوني جرايلنج الكتاب وذلك ليس
بسبب عدم "شيطنة" الكاتب للدين فقط، بل، كذلك، لأنّه إنتقد الإلحاد
محذراً من خطر تحويله لعقيدة كالدين ذاته.
وبهذا، يقترح فال عليهم بأن يهدؤوا
قليلاً خلال هكذا نقاشات.
نختتم المقال بقول فال، مؤلِّف كتاب "البونوبو والمُلحد"،
التالي:
"فيما لو يكن سؤال وجود الله مهماً، لكنّه ليس السؤال الذي ينشغل به كتابي، بل ليس السؤال، الذي يمكن لأخصائيّ علميّ الإجابة عليه".
يتبع
تنويه: مصادر الموسوعة كاملة في الجزء الأوّل
للإطلاع على باقي الأجزاء
الموسوعة الإلحادية (1) إعداد: أحمد فاسم الحاج إبراهيم - مُقدِّمة
الموسوعة الإلحادية (2) متابعة المُقدِّمة
الموسوعة الإلحادية (3) تعريف الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (4) متابعة تعريف الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (5) متابعة تعريف الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (6) ما يقوم الإلحاد به + شبح الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (7) ذهنية المُلحِد + الوصايا الإلحادية العشر
الموسوعة الإلحادية (8) لماذا يتحدث المُلحِد كثيراً حول الأديان والآلهة
الموسوعة الإلحادية (9) الإلحاد وتاريخ من الكفاح الطويل
الموسوعة الإلحادية (10) قصّة جديرة بالتذكُّر
الموسوعة الإلحادية (11) المُلحدون والموت
الموسوعة الإلحادية (12) البحث عن بدائل غير مادية
الموسوعة الإلحادية (13) الموت بحسب العلم
الموسوعة الإلحادية (14) إبيقور وتولستوي والموت
No comments:
Post a Comment