8.4 الأخلاق
بحسب المدرستين الإبيقورية والرواقية
يبرز بين الفلسفات اليونانية تيّارات، قد طوَّرها كلّ من فيثاغورث وأفلاطون
وأرسطو وإبيقور وزينون الكتيونيّ (نسبة إلى كتيون، وهو إسم موقع فينيقيّ في قبرص بموقع
مدينة لارنكا اليوم)، ديوجينوس وبيرون .. سنتطرق إلى طروحات إثنين منهم فقط فيما يلي.
إبيقور (341 – 270 قبل الميلاد)
أسس في أثينا (العام 306 قبل الميلاد)
مدرسة مهمة. اتفق مع طروحات المذهب الذري (مذهب الجوهر الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ)،
التي تعود إلى ديموقريطس وليوكيبوس، وتمكن من تطوير فلسفة إلحادية تقريباً وتتركز حول
سعادة الإنسان، فبحسب إبيقور، وجب على الإنسان تبني كل المسلكيات، التي تجلب له أقصى
متعة (يمكن فهمها كإشباع ورضى) وتخفف الآلام قدر المستطاع. من المهم معرفة كيفية تحصيل
الرضى الأكبر وصولاً حتى تحقيق السلام الداخلي.
الطريق الموصل إلى هذا الأمر ليس بديهياً جداً:
فلا يكفي إتباع المظاهر ولا التركيز على إشباع الغرائز.
فإن يكن الموت من الجوع جرّاء نقص الغذاء
أمراً مؤلماً، فهو كذلك حين تأكل حتى تنفجر، أو تلجأ للرذائل أو الإدمان بالعموم.
يمكن الوصول إلى المتعة الأعظم من خلال العيش:
بتواضع والإستمتاع دون مخاوف لا مبرر
لها بكل مباهج الحياة، بما فيها المتع الروحية العديدة، مثل:
المعرفة وتحسين الخطاب ومشاعر الصداقة والتأثر.
بحسب إبيقور، تلك المتع، هي متع كبرى ومرغوبة أكثر من المتع الجسدية.
زينون الرواقي (334 – 262 ق. م)
علَّم زينون في ساحة السوق، تحت رواق مرسوم عليه مشاهد من حرب طرواده، ومن
هنا، أتى لقبه "بالرواقيّ"، حيث يُعتبر أحد أهم مؤسسي المدرسة الفلسفية
الرواقية.
قبلت الفلسفة الرواقية بوجود إله أعلى، ويبدو أنها سارت في طريق التوحيد الإلهي؛
على الرغم من تبني الرواقيين للممارسات الدينية السائدة في وقتهم.
تؤيد الرواقية الحاجة إلى تفادي الآلام، لكن من خلال طريق مختلف عن طريق الفلسفة
الإبيقورية وقريب من طريق المدرسة السينيكية أو الكلبية.
فلم يعتبر زينون أن الرهان على المتعة هو الطريق الأفضل، لأننا لا نتمكن من
تحقيق هذا الأمر دوماً، أو لا نصل إلى الرضى الكامل، الذي نتوق إليه.
لا تُشبع المتعة، ويظهر، في الحال، ألم مرافق لإنقضائها.
في الواقع، يبدو عدم تفهُّم هذا النوع من الخبرات، التي لا يمكن تفاديها، كتفضيل
للمعاناة والألم.
يمكن أن يتلاشى الغنى، أن تتدهور الصحة وأن يموت الحبّ.
تقوم الصيغة الآمنة الوحيدة لعيش حياة رغيدة:
"على التموضع بعيداً عن المتعة
وعن الألم"؛ يجب أن تتحضر كي لا تصبح عبداً للشهوة أو للخوف، تعامل مع السعاده
ومع البؤس بعدم إكتراث.
إن لا ترغب بشيء، فلن تخشى فقدان أيّ شيء.
فكل ما هو مهم داخل الشخص.
إن نكن أسياد أنفسنا، لن نصبح عبيداً
لأحد.
فيما لو نعيش حياة مضبوطة بقانون أخلاقي صارم، فلا داعي للخوف من اتخاذ قرارات
يومية صعبة.
حتى يومنا هذا، تعني كلمة "رواقي":
"عدم الاكتراث بالمتعة وبالألم".
إنّ قسماً غير قليل مما يعتبر أخلاق مسيحية، يجد أصله في الأخلاق الرواقية لا
في مواعظ يسوع التي نقلها تلاميذه.
رغم عدم إمتلاك الرواقية لشعبية كالإبيقورية، آمن بعض الرومان بالرواقية، لأنهم
رؤوا فيها فضائل روما القديمة كالإجتهاد والشجاعة والوفاء والحزم والإحساس بالواجب،
ولهذا، لاقت نجاحاً كبيراً.
9.4
إزدواجيّة المعايير الأخلاقيّة
من أكثر ما يُحزننا، إمكان حضور إزدواجيّة معايير أخلاقيّة لدى البعض، تسمح
لهم مثلاً بمنع طبيب ما من القيام بإجراء عمليات إجهاض، وبشكل موازي (بذات الوقت) يدفعون
لبناتهم المراهقات كلفة وسائل منع الحمل العديدة.
ومن الأمور المألوفة المثيرة للحنق، أن يمتلك السيد أو تمتلك السيدة المناهض(ة)
لتوزيع وسائل منع الحمل للوقاية من الإيدز (المقصود الواقي، هنا، تحديداً)، بعد مضي
ثلاثين عام من الزواج، بالكاد ولدين.
دون نسيان نظرة الكهنوتيين الدينيين لعشيقين يتبادلان القُبَلْ في مكان عام،
باعتبارهما شخصين فاقدين للقيم والأخلاق!!
يمكن لأيّ كان أن يقول هذا، فهي أقوال تقليدية، تعكس إستثناءات، لا تسمح بإستخلاص
تعميمات واقعيّة.
لهذا، وباعتبار أننا نسعى للوصول إلى فهم أوضح لهذا الأمر، اعتمدنا على دراسة
تذهب إلى مدى أبعد من رأي بسيط أو تصوّر موضوعيّ مجرّد.
بحسب دراسة صادرة حديثاً من معهد غوتماخر فإنّ استخدام موانع الحمل من قبل جزء
من النساء الأميركيات هو مستقلّ عن العقائد الدينية تماماً.
أُجريت الدراسة على 7536 إمرأة، ويُعتبر هذا الأمر هدم لأسطورة إعتبار الدين
عائق بوجه مناهج التخطيط الأسريّ. أو هو المُعتمد الحصريّ للتخطيط الأسريّ المُناسب؟؟
يتخذُ الباحثون موقفاً حذراً ويميلون لتأكيد وجود فجوة بين رأس الكنيسة والقواعد
المؤمنة، حيث يُشيرون إلى أنَّ:
"الإعتراض
على منع الحمل من قبل جانب التراتبيّة الكهنوتيّة وأوساط محافظة أخرى: لا ينعكس في
سلوكيات واقعيّة وإحتياجات صحيّة للنساء الكاثوليكيات أو الإنجيليات أو مؤمنات بمذاهب
أخرى".
من بين الأمور الأخرى المُلفتة في الدراسة، بيّنت أنّ "من بين كل النساء
الممارسات للجنس، قد استخدمت نسبة 99% منهن موانع حمل مختلفة عمّا هو قائم في التخطيط
الأسريّ الطبيعي"، وأنّ تلك المعطيات هي ذاتها بين النساء الكاثوليكيات، حيث تبلغ
النسبة 98% بينهن.
10.4 القيم البشرية
تبدأ القيم البشرية مع المحبة، لأنّ بها تبدأ الحياة.
تفيض الحقيقة والإستقامة والسلام واللاعنف، كقيم مستمرة وخالدة، من المحبة.
يجب أن يُصبحَ كلّ مسكن معبداً ومركزاً لزرع القيم البشرية، لأنه منذ حقب مُغرقة
في القدم وفي كل الثقافات البشرية، جرى إعتبار المسكن كممثل للمكان الذي إنتقلت عبره
تقوية تلك القيم بتلك الثقافات بإمتياز، وبشكل رئيسي، عبر نموذج المثال من الكبار في
السن (القُدوة).
في يومنا هذا، تزداد الرعونة التي يتسم بها الأزواج بصورة متنامية، عبر تفكك
الروابط الأسرية، وكعاقبة، يحصدها الأطفال مع آباء غير قادرين على القيام بواجباتهم
بشكل مناسب عادةً.
الأشخاص الذين تلقوا تعليماً أكثر، هم الأكثر إمتلاكاً لحيوات (جمع حياة) أكثر
فوضى، دون القدرة على الكبح ولا الضبط ودون إهتمام ولا قلق على وضع صحّة أبنائهم
الذهنيّة.
التعليم الذي يُركّز على الأشياء، هو:
تعليم لا إنساني وهزيل ويحول الإنسان
الى آلة.
الحب الحقيقي هو القادر على المزج بين الرغبة الجنسية والعمل، مع إمكانية الكسب
الأكبر للنقود وإمكانية إكتساب أشياء أكثر.
تُبعِدُ هذه الاشياء الآباء عن أبنائهم بشكل متزايد، فيتركوهم بأيدي غير مناسبة،
مع أشخاص يؤدون عملهم لأجل النقود، وفي كثير من المرات، دون أي اهتمام آخر أو رغبة
بالعمل ذاته.
لا إمكانية لوجود حياة بشرية دون ثقافة، ثقافة كصيغة عيش تسمو بما هو غريزي
وتتحول الى رمز، لأنه بترك هذا المبدأ، سيفقد الانسان كرامته وسلامته وأمنه. ثقافة
تعكس عملية القيام بالأشياء بصيغة بشرية، بتواضع وفطنة لأجل عيش حياة مسكونة بالمعنى.
يتوجب على الآباء تعليم أبنائهم، وسيتوجب على الأبناء إحترام سلطة الآباء وسلطة
معلميهم (الإحترام لا الخضوع بصورة عمياء صمّاء).
تُعزّز وسائل الاعلام قيم هامشية وبلا
معنى، حيث تتساهل مع إستهلاك المخدرات والكحول!!
يجب أن يتلقى الأطفال تربية من آبائهم، هؤلاء الذين سيعطونهم حرية كافية بنطاق
السلوك الصحيح، وسيقومون بضبط مسلكياتهم المنحرفة.
سيتوجب على الأطفال، ذكور وإناث، الإقتداء بأمهاتهم وبآبائهم، بالتالي، يصلوا
ليتحملوا المسؤولية الكاملة عن سلوكهم.
من المهم التعرف على الأبناء جيداً، على فضائلهم لتعزيزها ونقاط ضعفهم لتصحيحها.
الطفل كالإسفنجة، يمتص كل ما يطاله.
نفسيته لدنة، تستقبل المؤثرات التي ستؤثر بسلوكه وتساهم بتشكيل شخصيته.
يشاهدون السينما والرائي، التي تعرض عالم ضارب بالقساوة، مليء بالعنف والقليل
من الإحترام للحياة الانسانية، وستُدخِلُ تلك الخبرات الذهول الى قلبه ببطء.
يمكن أن يساهم الآباء بتدمير أبنائهم، من خلال تساهلهم الزائد وإباحة كل شيء
لهم، وعدم إعطائهم مثالاً للنزاهة والضبط والتأديب بصيغة تنفيذية مُقنعة.
11.4 القاعدة الذهبية
القاعدة الذهبية، أو القانون الذهبي، هي المبدأ الأخلاقي الأساسي الأكثر حضوراً
في جميع الثقافات والحضارات.
تقول هذه القاعدة، عادة، الآتي:
"عامِل
الآخرين كما تحب أن يعاملوك" (في صيغتها الإيجابية) أو "لا تُعامِل الآخرين
فيما لا ترغب أن يعاملوك به" (في صيغتها السلبية، والمعروفة، كذلك، بالقاعدة الفضية).
طرح شائع، قد رافق، منذ زمن طويل
يسبق دراسات مارك هوزر بكثير، ما هو غريزيّ:
طرح خاص بالطبيعة البشرية.
من المؤكد أن فهم هذه القاعدة، سيقود لإنتشارها على نطاق واسع، بحيث تُطبّق
على كل البشر، وليس على أعضاء جماعة بعينها أو إتنية أو أمة.
تتأسس حقوق الإنسان على التطور الفلسفي – السياسي – التشريعي الحاصل على هذه
القاعدة.
تعود النسخة الأولى من هذه القاعده الذهبية إلى مصر القديمة، وقد وردت في قصة
فرعونية عنوانها "قصة فلاح فصيح"، ظهرت خلال الفترة الممتدة بين العام
1970 و1640 قبل الميلاد، وتقول:
"اعمل
مع الآخر مثل ما يمكن أن يبدر منه تجاهك، بحيث يدفعك لفعل شيء مشابه".
من وقتها، رددت جميع الأديان والأنظمة الفلسفية – الأخلاقية ذات المبدأ، فنجد:
الزرادشتية: "الطبيعة خيرة، فقط، عندما يتصرف الشخص مع الآخرين كما يشتهي
أن يتصرفوا معه"، (شاياصت – نا – شايصت13، 29).
"الخير بالنسبة للجميع وبالنسبة لشخص واحد، أياً يكن: هو الخير بالنسبة
لي ... وما هو خير بالنسبة لي، يجب عليّ أن أعتبره، كذلك، لدى الآخرين"، (غاتا،
ياسنا 43، 1).
الهندوسية: "لا تعمل مع الآخرين ما هو غير خيّر بالنسبة لك"، (ماهابهاراتا،
13، 115، 22).
"لا يجب على الواحد التصرُّف بصيغة يعتبرها غير محببة بالنسبة له: فهذا
الأمر هو جوهر الأخلاق"، (ماهابهاراتا، 13، 114، 8).
اليهودية: "لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك، بل تحب قريبك كنفسك"،
(سفر لاويين، 19، 18).
"لا تفعل مع الآخرين ما لا ترغب بأن يفعلوه معك"، (هيليل، شابات
31 أ).
البوذية: "لا تتعامل مع الآخرين بطريقة تعتبرها مهينة"، (أودانا
– فارغا 5، 18).
"موقف غير محبب أو غير مريح لي، ليس كذلك له؛ وكيف يمكنني فرض وضع غير
محبب ولا مريح لي على الآخرين؟"، (سانيوتا نيكايا 5، 353. 35 – 342، 23).
كونفوشيوس: "لا تفعل مع الآخرين ما لا ترغب بأن يفعلونه معك أبداً"،
(المختارات 15، 23).
لاوتسو: "اعتبر ربح جارك كربحك، وخسارة جارك كخسارتك"، (تاي شانغ
كان ينغ بين، 213
218).
فيثاغورس: "لا تفعل شيء يتسبب لك بالخجل مع الآخرين، ولا لمرة واحدة؛ سيما
إن تحترم نفسك. قُم بمحاكمة تصرفاتك وكلماتك"، (آيات ذهبيات: 12 – 14).
إبيقور: "يساهم تقليل حجم الأذى، عن الأقلية والأكثرية، بزيادة حجم السعادة
للجميع".
يسوع: "تحب قريبك كنفسك"، (انجيل متى، 22: 39).
"فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضا بهم، لأن هذا
هو الناموس والانبياء"، (انجيل متى، 7: 12).
وتتكرر آيات شبيهة في انجيل متى 5، 38 وانجيل لوقا 6، 27 – 36 وغيرها.
بولس الرسول: "لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلا بان يحب بعضكم بعضاً، لأن
من أحب غيره فقد أكمل الناموس"، (رسالة بولس إلى أهل رومية 13، 8).
تتكرر الفكرة في غلاطية 5: 14.
الإسلام: "لا يؤمن أحدكم حقّ الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه"،
(حديث منسوب لمحمد، رواه البخاري، الفصل الثاني، 9).
البهائية: "لا تحمل أيّ شخص ما لا طاقة لك على حمله"، (بهاء الله،
سورة الملوك)؛
"اختر لقريبك ما تختاره لنفسك"، (الكلمات الفردوسية. بهاء الله، لوحات
6، 20).
كانط: "تصرف بصيغة يمكنك أن تحب، من خلالها، أن يتحول فعلك إلى قانون كونيّ".
هناك أقوال شبيهة كثيرة، من جميع الأزمنة والثقافات، لا يتسع المجال لإيرادها
كلها هنا، سيما في العصر الحديث، فقد ذكرنا كانط فقط، في حين بحث هوزر صدى هذا المبدأ
في الغرب وتحقق بيتر ألبرت ديفيد سنجر من حضوره لدى جماعات بعيدة عن نمط الحياة الغربي
الحديث وتشكل جزءاً من مجتمعات على مستوى دولة.
هو مبدأ أساسيّ للبشرية، وجزء من قاعدة حقوق الإنسان.
كما أشرنا أعلاه، يبدو أنه إرث
الجميع، أو إرث الأغلبية منّا ونظرياً على الأقلّ. الخطوة التي أفضت إلى تحويل المباديء
إلى قضية ممارسة (سلوكية)، هي ما بحثه كبار الفلاسفة (أفلاطون، أرسطو، زينون، إبيقور
...إلخ).
هل تقوم الحكمة على نوع من الفهم ومواجهة الذات، التي تقود إلى المُضيّ قُدُماً
دون جهد وبفرح؟
هل يجب أن يتمتع الشخص بالحكمة، لكي يمتلك منطقاً مترابطاً؟
قد تساعد الروحانيات؛ لا العقائد الدينية بالضرورة.
يمكن أن تملك قيمة ما في هذا المنحى.
لكن، أقدّر بأن كثير من الناس تعطي أهمية للروحانيات، كي تصبح روحانية أكثر
أو كي لا تصير هكذا وتخسر، في المقابل، هناك من اعتبرها نمواً متناغماً بإتجاه التشاعر
وطيبة القلب.
توجد عظمة في تبني التواضع فكراً وسلوكاً.
في التدرُّج بفهم أن كل شيء نسبيّ، بفهم الفروقات البسيطة، الإبتعاد عن الدوغمائية
والأحكام المسبقة وعدم التسامح بكل أشكاله.
عندما كنت صغيراً، لم أستطع فهم التناقضات بين القناعات والممارسات الأخلاقية.
فمن حين لآخر، شعرتُ بامتلاك أشخاص غير متدينين لإنسانية وطيبة قلب أكثر من كثير من
المتدينين.
انتبهتُ إلى تأثير أشخاص، تبدو عليهم علائم الصدق، من خلال إقناعنا بالتحول
لأشخاص فاضلين، فيما هم يتخلون عن تطبيق مثالياتهم بشكل مثير.
كذلك، يصعب تفهُّم وجود أشخاص على
هذه الشاكلة.
منذ زمن غير طويل، اعتقدتُ بأن المؤمنين دينياً يمتلكون، على الأقل، سبب أخلاقي
يجعلهم يكذبون بشكل أقلّ، يصيروا موضع ثقة، يرتكبوا جرائم بنسبة أقل، ولو أن الأمر
اقتصر على مصالح إحتمالية نسبية.
لكن، أظهرت دراسة إحصائية بأنني كنتُ
على خطأ في اعتقادي ذاك.
وجب عليّ إيلاء الكثير من الإهتمام بآراء المحللين النفسيين وقتها، الذين اعتبرتهم
مصيبين بتشخيصهم لإنحرافات بعينها، وكذلك، الإهتمام بآراء الطاويين بأيّ زمان، الذين
أدانوا كل ما خرق الحكمة من تحريمات وقمع وإكراه.
النتيجة، حتى الآن، هي ذاتها:
تؤثر على موقفك، على مشاعرك؛ وليس
على إيمانك بالعموم.
يمر الحل عبر التفهُّم والتناغم
الداخلي والحكمة المرتبطة بعثور الشخص على نفسه وبالمحبة وبالتسامح الشامل.
12.4 نظرية المعرفة ونظرية الأخلاق
النوع البشري، كسائر الأنواع القاطنة
في الأرض:
هو مُنتج تطوري.
تُعلّمنا النظرية التطورية، الراهنة، بأنّ الخصائص المختلفة للأنواع المختلفة،
هي تكيفات، قد حدثت عبر عملية متراكمة للإنتقاء الطبيعي.
يُبدي الفيلسوف الكندي مايكل روس، الخبير في علم الأحياء التطوري، أسفه لتركيز
الفلسفة على الطبيعة البشرية مثل دراسة المعرفة (آبستمولوجيا أو نظرية المعرفة) و الأخلاق
(نظرية الأخلاق) وإبتعاده عن المنظور، الذي يوفره علم الأحياء التطوري الراهن لنا.
النقطة التي ينطلق منها الكاتب واضحة:
إن نكن نتيجة للإنتقاء الطبيعي، بالتالي، يجب أن تعكس هذه العملية ميزاتنا
(خصائصنا) المختلفة.
في كتابه "حول الداروينية والعلم والإيمان"، يتساءل روس حول ما تكونه
الطبيعة الحقيقية للمعرفة والأخلاق.
بعيداً عن التفسيرات المثالية لكثير من الفلاسفة، بالنسبة لهذا الكاتب، الإمكانات
الإدراكية، كما إمكانات التقييم الأخلاقي، هي:
تكيفات بيولوجية.
فقد نتجت بالإنتقاء الطبيعي وتأثيره المباشر في البقاء على قيد الحياة والتكاثر
لدى نوعنا الحيّ.
حيث تتميّز تلك التكيفات بمرونتها ولم تُورَّث بصورة جامدة بل عبر سلسلة من
الخطوط المعلِّمة أو الإنشاءات الفكرية المتأصلة في الإرث الجيني لنوعنا (قواعد نشوء
لابنيوية أو وراثة ثانوية أو علم التخلُّق).
بالنسبة لروس، ليس علم المنطق وإستدلالاته، هكذا، كما الرياضيات، ببعيد عن الكفاح
لأجل الحياة والتكاثر.
دخل نَمران إلى كهف، حيث يعيش شبه إنسان، وبعد مضي بعض الوقت، خرج واحد فقط.
هل يُعتبرُ الكهف مكاناً آمناً؟
يبدو بأن شبه الإنسان ذاك، قد حسبها بقواعد فطرية، بحيث أنّ "2 – 1 يساوي
1" أي هناك فائدة إنتقائية إن فكّر بأنّ "2 - 1 يساوي 0".
هذا لا يعني بأنه توجد قاعدة نشوء لابنيوية تطال كلّ التأكيدات في علم المنطق
والرياضيات.
الرياضيات والمنطقيات المتقدمة،
هي ظاهرة ثانوية، فقط، في مجموعة التعبيرات والقواعد الأبسط والتي لديها قاعده بيولوجية.
لنتحدث، الآن، حول السلوك الإنساني.
سنأخذ واقع تفادي زواج الأقارب، وخصوصاً زواج الأخ – الأخت، بعين الإعتبار.
يظهر بأن هذا السلوك مؤسس بدرجة كبرى على النهي (الكبح) المتنامي خلال العيش
المنزلي المُشترك القصير خلال السنوات الست الأولى من الحياة.
حيث تُلاحَظْ هذه القاعده الوراثية الثانوية عند كلّ الثقافات الكثيرة المختلفة،
إذاً، من المنطقي إفتراض إمتلاك هذه الصيغة لقاعده وراثية.
نَتَجَ زواج الاقارب كسبب لظهور نسب عالية من الموتى، الشيء الذي يعني أمراض
وراثية أكثر وموت مبكر للمتحدرين بصورة أكبر.
وعلى إعتبار أن الإنتقاء الطبيعي يعمل وفق قاعدة تقود لتحقيق نسب عالية من البقاء
على قيد الحياة، سيجري:
تفضيل زواج غير الأقارب ببساطة.
في هذا الاتجاه، يُعتبر عمل الأستاذ روس مساهمة أصيلة ودقيقة في نظرية المعرفة
ونظرية الأخلاق.
ففيما لو أنّ قواعدنا الوراثية هي تكيفات، وفيما لو أن التكيفات عارضة (طارئة)
ناتجة عن حوادث إنتقائية وحيدة أو فريدة، فلن نفكّر بضرورة القواعد الوراثية الثانوية.
بهذه النقطة، يختلف طرح روس عن طروحات
وشروحات أخرى، لا تتجرأ على الخوض بهذا النمط من المواضيع.
خلاصة ما سبق ذكره، هي:
"نعثر، بفضل الداروينية، على الطريق نحو تمثيل
عالمي ومتماسك للطبيعة البشرية على المستويين المعرفي والأخلاقي".
يتبع
تنويه: مصادر الموسوعة كاملة في الجزء الأوّل
للإطلاع على باقي الأجزاء
الموسوعة الإلحادية (1) إعداد: أحمد فاسم الحاج إبراهيم - مُقدِّمة
الموسوعة الإلحادية (2) متابعة المُقدِّمة
الموسوعة الإلحادية (3) تعريف الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (4) متابعة تعريف الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (5) متابعة تعريف الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (6) ما يقوم الإلحاد به + شبح الإلحاد
الموسوعة الإلحادية (7) ذهنية المُلحِد + الوصايا الإلحادية العشر
الموسوعة الإلحادية (8) لماذا يتحدث المُلحِد كثيراً حول الأديان والآلهة
الموسوعة الإلحادية (9) الإلحاد وتاريخ من الكفاح الطويل
الموسوعة الإلحادية (10) قصّة جديرة بالتذكُّر
الموسوعة الإلحادية (11) المُلحدون والموت
الموسوعة الإلحادية (12) البحث عن بدائل غير مادية
الموسوعة الإلحادية (13) الموت بحسب العلم
الموسوعة الإلحادية (14) إبيقور وتولستوي والموت
الموسوعة الإلحادية (15) كيف يواجه الملحدون الموت؟
الموسوعة الإلحادية (16) بخصوص الأخلاق
الموسوعة الإلحاديّة (17): الرئيسيّات والأنسنة والأخلاق
الموسوعة الإلحادية (18) النسبوية الأخلاقية وأخلاق الإتجاه الإنسانيّ العلمانيّ
الموسوعة الإلحادية (19) الأخلاق والإنتقاء الطبيعي والبحث عن الأخلاق لدى الرُضَّع
الموسوعة الإلحادية (21) الوظيفة الأخلاقية للدين والمشهد الأخلاقي لسام هاريس
No comments:
Post a Comment