2025/11/15

The Atheist Encyclopedia الموسوعة الإلحادية (26)

تجدر الإشارة إلى ما اعترف سبينوزا به، أن نعرف بأننا "نشعر بالميل، بصورة طبيعية، للإيمان بما نأمل به بسهولة، وفي حال معاكس، نميل للإيمان بما يخيفنا بصعوبة" في هذا النوع من القضايا، لكن، نستعيد الواقعية العمليّة في الحياة الواقعية، ويقدم سبونفيل مثالاً حول هذا:

 يبحث شخص عن شقّة جديدة واسعة متكونة من ستة غرف وثلاث حمّامات، تقع في مركز مدينة مانهاتن ولديها إطلالات على الحديقة المركزية. لم يعثر على شقة بسعر يقلّ عن 100000 دولار حتى اللحظة، لكن، هو واثق ويؤمن بأنه سيحصل على شقته التي يحلم بها سريعاً.

هل نعتبره واهماً؟

في الواقع، ربما، ليس مخطئاً، وربما، يحالفه الحظّ.

لكن، في الواقع، يعتبر كثيرون هذا النوع من الإيمان على أنه محض وهم، وهم يملكون إيماناً آخراً ذو وهم أكبر، بل ضعيف الإحتمال بصورة أكبر، مثل وجود "إله خالد، كلي العلم، كليّ القوّة، خيّر وعادل بشكل مطلق".

 إن يبدو هذا لكم ذو مصداقية أكبر من وجود شقّة بستة غرف في مركز مانهاتن وبأقل من 100000 دولار، "ربما لديكم فكرة محدودة للغاية عن الله، أو فكرة مُبالَغ فيها حول المكاتب العقارية!".

باختصار، لا يؤمن سبونفيل بالله، لأنه لم يعثر على أيّ سبب (ولا دليل، ولا خبرة) بصالح وجوده، بل عثر على عدة أسباب تصبّ في مجرى عدم وجوده. 

وكذلك، لأجل الصدق مع النفس، حتى إزاء:

 "الغموض، الكينونة، الرعب، الشرّ، الشفقة، الرحمة، الظُرف، التواضع (إن يكن الله قد خلقنا على صورته وأحرار بشكل مطلق، فلن نجد أيّ غفران)، وبالنهاية لأجل جلاء رغباتنا وأوهامنا".

يوضّح سبونفيل بأنها "أسبابه"، التي لا يرغب بفرضها على أحد، بل يُعبِّر عن رأيه بحريّة ويعرضها للنقاش.

يخلط التطرُّف بين الإيمان الشخصي الخاص وبين المعرفة أو الرغبة بفرضه بالقوّة (تترافق الدوغمائية مع الإرهاب بشكل دائم، ويغذيان بعضهما البعض بصورة متبادلة).

وهذا خطأ مزدوج:

ضدّ الذكاء وضدّ الحريّة.

وهو ما يوجب توجيه ردّ مزدوج له:

عبر الديموقراطية والإيضاح.

التديُّن من حقّ أيٍّ كان.

كذلك، هو عدم التديُّن.

ربما، حرية التفكير، هي الشيء الوحيد الأجمل من السلام.

 لأن السلام، دون حرية تفكير، سيتحول إلى إستعباد أو عبودية.

 من حين لآخر، نُخضع رؤيتنا الدينية لتمرين منطقي – عقلاني ما.

أعتبر بأنّ هذا يحدث كتبرير لتبنينا خياراً آخراً، قد فضلناه مسبقاً، أي اعتباره أولوية تتفوق على الخيار الآخر.

بأيّ معنى؟

يمكن أن تتعدد الإجابات على هذا السؤال.

 ذلك أنّ هناك أسباباً، ربما غير عقلانية أو لا منطقية بالضرورة.

بمعنى ملموس، تندرج ضمن الإحساس بدفء العالم، وهو ما يعلمونا إيّاه في الصغر، عندما حدثونا عن تلك "النشأة العائلية للكون"، وحتى عن فكرة شاعرية حيوية (يوجد من يرفقها بنوع من الإيمان)؛ التزويد "بسبب" للعيش؛ العزاء، الأمل؛ الشعور بتلقي المحبة؛ باختصار لكل ما ورد:

عالم مزود بمعنى شامل، متناغم، يعطي معنى للحياة، للعائلة، للمجتمع، للثقافة، للتاريخ:

 الدين.

كذلك، يحضر ما يعارض هذا:

الخوف من الأبعد هناك؛ "ألربما" التي رافقت خيار "الرهان" الآمن المرتبط بالإيمان بالله أملاً بمصير أفضل بحياة فوق أرضية.

من المفترض أن الأسباب الدافعة للإلحاد، ربما هي نفسية أو إنفعالية عاطفية، كالتي جرت الإشارة إليها أعلاه، ويمكن أن يشكّل الإلحاد خياراً مفضلاً للكثيرين مقارنة بالتقييدات الحيوية التي يمكننا ربطها بالعقائد الدينية أو بتأثيراتها (أو بالمشاكل الناشئة من الترويج لها أو سعيها لفرض نفسها على المجتمع) أو بالإيمان بكائنات ألوهية أو بحياة فوق أرضية، ....الخ.

لا يقتصر الأمر على أن يصير المُلحِد "حرّاً أكثر"، ان يصير هو نفسه ذاته، أن يفكر بنفسه، ...الخ، بل يوجد ملحدون حاليُّون يدعمون إلحادهم بذهنية علمية أو بتحليل "موضوعي" أكثر حول العالم (في الزمن الذي يشعرون خلاله بأنهم ذوي "مسؤولية" أكبر، بوصفهم كائنات مستقلة لا خاضعة ولا تابعة).

ما الذي يقوله سبونفيل حول هذا الأمر؟

لم أتلقَ تعليماً دينياً مسيحياً أبداً؛ بل آمنتُ بالله، امتلكتُ إيماناً حيّاً، رغم حضور شكوك لديَّ، إلى أن بلغت عمر 18 عام.

 وقتها، فقدتُ الإيمان، ومثّل الأمر عملية تحرُّر:

صار كل شيء أبسط، أخفّ، منفتح أكثر، أكثر قوّة!

 بدا الأمر كما لو أنني خرجتُ من الطفولة، من أحلامها ومخاوفها، من قلقها وضعفها، كما لو أنني دخلتُ في العالم الواقعي، بالنهاية، عالم البالغين، عالم الفعل، عالم الحقيقة دون غفران ودون عناية إلهية.

 أيّة حريّة هذه!

أيّة مسؤوليّة هذه!

أيّ ابتهاج هذا!

منذ أن أصبحتُ مُلحداً، أشعر بأنني أعيش بشكل أفضل، سيما على صعيدي الوضوح والحرية.

مع ذلك، لم أتمكن من طرح هذا الأمر بوصفه قانون عام.

يمكن لبعض المتحولين الدينيين تقديم شهادات معاكسة، بحيث يعتروا بأنهم يعيشون بصورة أفضل من لحظة اعتناقهم لعقيدة دينية ما، بل حتى لدى من لم يهجروا دين الآباء، هناك من يعتبر بأن إيمانه هو أفضل ما في الوجود.

ما الذي يمكننا استخلاصه، سوى أننا بحالة إختلاف لا يُفسِدُ للودّ قضيّة؟

يكفيني هذا العالم:

أكون مُلحداً وسعيداً بهذه الكينونة.

لكن، آخرون، أكثر عدداً دون شكّ، ليسوا أقلّ سعادة بإيمانهم.

 ربما يحتاجوا إلهاً كنوع من العزاء، يحقق لهم الطمانينة، للهروب من مواجهة الأشياء غير المعقولة واليأس، أو لإعطاء نوع من الترابط المنطقي لحيواتهم، لأنّ الدين يتوافق مع خبرتهم القصوى، سواء عاطفية انفعالية أو روحية، مع استجاباتهم، مع تربيتهم، مع تاريخهم، مع أفكارهم، مع سعادتهم مع محبتهم.

فكل تلك الأسباب موضع احترام.

قال ستيغ داغرمان:

"إشباع إحتياجاتنا للعزاء: أمر مستحيل".

وكذلك، إحتياجاتنا للمحبة وللحماية.

ويتعاطى كل شخص مع تلك الإحتياجات وفق إمكاناته. 

ثمّ يتساءل سبونفيل عن القوة الحقيقية للإجابات الدينيّة.

بخلاف ما يُقال غالباً، لا تُهدّيء الإجابات الدينية خواطر المؤمنين الخاصة بالموت. 

فصور الجحيم مُقلقة أكثر من أيّ شيء آخر.

 لا يُصيب المُلحدون أيّ قلق مرتبط بهذه الأمور.

 يقبلون الموت بوصفه نهاية طبيعية، ويبذلون الجهود للتعوُّد على هذا الوضع.

هل يتمكنوا من تحقيق هذا؟

لا ينشغل بالهم كثيراً.

سيحمل الموت معه كل شيء، بما فيه كل المنغصّات.

تهمهم الحياة في الأرض أكثر، ويكفيهم هذا الأمر.

 لكن، هناك موت الآخرين، وهو واقعيّ أكثر، مؤلم أكثر، لا يمكن احتماله بصورة أكبر.

هناك، يصير المُلحد غير قادر على الدفاع.

يأخذ الموت أحبتنا، يفطر قلوبنا. حيث لا يوجد عزاء (علماً أنه ينتهي ألم مرافق، ربما في غاية الفظاعة أحياناً). نحتاج زمناً طويلاً كي يخف الألم أو يُحتمل الوضع من خلال الذكريات الجميلة، المسلية والوديّة.

"هكذا يعمل الحزن، يخفّ مع مرور الوقت وإعمال الذاكرة، قبولاً ووفاءاً. لكن، يستحيل أن يحدث هذا في اللحظة المؤلمة. حيث يبقى الرعب فقط؛ يبقى الألم فقط؛ يبقى كل ما يحبط فقط. كم نحبّ وقتها الإيمان بالله!! كم نحسد أولئك المؤمنين به أحياناً!! لنعترف، هنا، هي نقطة القوّة للأديان، هنا، لا يمكن هزيمتهم تقريباً. لكن، هل هذا سبباً يدفع للإيمان فعلاً؟ بالنسبة للبعض، دون أدنى شكّ. بالنسبة لآخرين، أكون ضمنهم شخصياً، سيكون سبباً لرفض الإيمان بالله، لدرجة تبدو فيها كمحاولة خداع مفضوحة، كما يُقال عادة، أو ببساطة بسبب عزّة النفس، الغضب أو القُنوط. على الرغم من الألم، يشعرون أقوياء بإلحادهم. يبدو لهم التمرُّد بمواجهة المصاعب أصحّ من ممارسى الدُعاء. والخوف أصيل أكثر من العزاء".

 كذلك، يقضي الدين بأداء إحتفالات طقسية جماعية.

"حداد صامت، دُعاء، إنشاد، صلوات، رموز، مواقف، طقوس، قرابين....الخ. هي عبارة عن صيغة لتدجين الخوف، أنسنته، تمدينه، ولا شكّ أنه أمر ضروريّ. لن ندفن إنسان كما نعمل مع حيوان ميِّت. لن نحرقه كما لو أننا نحرق حطبة. يُسجِّل الطقس هذا الفارق، يؤكده، وهو ما يصبح أمراً لا يمكن الإستغناء عنه تقريباً. هكذا، هو الأمر مع مراسم الزواج، سيما لمن يعتبره ضرورياً بالنسبة إلى الحب أو الجنس. وهكذا، هي طقوس الدفن والجنائز بالنسبة إلى الموت".

 "يغض كثيرون النظر عن مصائرهم الشخصية، لكن، لا يغضون النظر أبداً عن المؤاساة وأداء الطقوس المرتبطة بملمة شديدة تحل بهم. تحضر الكنائس لأجلهم هنا".

وبخصوص "المعنى"

"أومن بالله – قالت كاتبة لي أحد الأيام – لأني سأكون تعيسة (حزينة)  إن أهجر الإيمان".

يجب أخذ هذه العبارة بعين الاعتبار، حتى لو أنها لا تُشكّل أيّ دليل (فربما الحقيقة تعيسة أو حزينة، كما قال رينان).

يُخجلني التسبُّب بخسارة أحد لإيمان يحتاجه، أو لمن يعيش بصورة أفضل بظلّ الإيمان ببساطة.

يكونوا كُثُراً جداً ولا يزعجني إيمانهم على الإطلاق.

 فلماذا أكافح هذا الإيمان؟

 لن أرتد عن الإلحاد.

ببساطة، أحاول شرح موقفي، تقديم أدلة حوله، لأنني أحب الفلسفة وأكره الدين.

في النطاقين، يوجد (توجد) أرواح حرّة.

 أتوجه إلى تلك الأرواح بالتحديد.

 أترك الآخرين، مؤمنين أو ملحدين وغير مؤمنين، مع قناعاتهم.

هل يمكن الإستغناء عن الدين؟

نرى بأن الجواب على هذا السؤال، انطلاقاً من وجهة نظر فردية، بسيط ومتنوع:

هناك أفراد، أنا أحدهم، يعيشون بصورة جيدة دون دين، في حيواتهم اليومية، أو يتعايشون بصورة ما مع الملمات حين تحلُّ بهم.

يتبع

تنويه: مصادر الموسوعة كاملة في الجزء الأوّل

للإطلاع على باقي الأجزاء

الموسوعة الإلحادية (1) إعداد: أحمد فاسم الحاج إبراهيم - مُقدِّمة

الموسوعة الإلحادية (2) متابعة المُقدِّمة

الموسوعة الإلحادية (3) تعريف الإلحاد

الموسوعة الإلحادية (4) متابعة تعريف الإلحاد

الموسوعة الإلحادية (5) متابعة تعريف الإلحاد

الموسوعة الإلحادية (6) ما يقوم الإلحاد به + شبح الإلحاد

الموسوعة الإلحادية (7) ذهنية المُلحِد + الوصايا الإلحادية العشر

الموسوعة الإلحادية (8) لماذا يتحدث المُلحِد كثيراً حول الأديان والآلهة

الموسوعة الإلحادية (9) الإلحاد وتاريخ من الكفاح الطويل

الموسوعة الإلحادية (10) قصّة جديرة بالتذكُّر

الموسوعة الإلحادية (11) المُلحدون والموت

الموسوعة الإلحادية (12) البحث عن بدائل غير مادية

الموسوعة الإلحادية (13) الموت بحسب العلم

الموسوعة الإلحادية (14) إبيقور وتولستوي والموت

الموسوعة الإلحادية (15) كيف يواجه الملحدون الموت؟

الموسوعة الإلحادية (16) بخصوص الأخلاق

الموسوعة الإلحاديّة (17): الرئيسيّات والأنسنة والأخلاق

الموسوعة الإلحادية (18) النسبوية الأخلاقية وأخلاق الإتجاه الإنسانيّ العلمانيّ

الموسوعة الإلحادية (19) الأخلاق والإنتقاء الطبيعي والبحث عن الأخلاق لدى الرُضَّع

الموسوعة الإلحادية (20) الأخلاق فلسفياً والقيم بشرياً والقاعدة الذهبيّة

الموسوعة الإلحادية (21) الوظيفة الأخلاقية للدين والمشهد الأخلاقي لسام هاريس

الموسوعة الإلحادية (22) أصلُ النظرة السلبية للإلحاد وللملحدين 

الموسوعة الإلحادية (23) هل الإلحاد عبارة عن دين آخر أو دين جديد؟ 

الموسوعة الإلحادية (24) الأدلة التي قادت الفيلسوف الفرنسيّ أندريه كونت سبونفيل إلى تبني الإلحاد

الموسوعة الإلحادية (25) متابعة الأدلة التي قادت الفيلسوف الفرنسيّ أندريه كونت سبونفيل إلى تبني الإلحاد

No comments: