15. مصدر السعادة
ينتج أحد الأخطاء الذهنية الرئيسية، التي نرتكبها كبشر، لدى بحثنا عن مصادر
سعادتنا.
فبالتحديد، هناك مناسبات لا نبدو خلالها على أحسن حال، فنتساءل:
"ما الذي أحتاجه لأصبح سعيداً؟"، "ما الذي يمكنني عمله
لأبدو سعيداً أكثر؟".
وقتها، ولأجل الإجابة على تلك التساؤلات، نبحث ضمننا نحن للعثور على مصادر
راحة إنفعالية حسية من قبيل حقبة سعيدة قد عشناها أو ما شابه.
بالنهاية، نعتقد، بشكل خاطيء، بأن تلك الظروف قد كانت وراء سعادتنا، وأنه
باستعادتها، ستعود تلك السعادة ذاتها لتلفّ حيواتنا.
هنا، بالضبط، يوجد الخطأ!
فلكي نبدو بوضع جيد على مستوى حسي إنفعالي، فإنّ ما نحتاج إليه، هو:
عقل سليم فقط.
يمكن أن نعيش سعداء، عملياً، في أيّ ظرف.
يُقال في الدوائر البوذية، عادةً، عن الشخص العُصابي:
شخص ذو عقل حاضر لدى قرد سكران!
كقرد مسعور، يجري ويقفز من غصن إلى غصن، لكن، دون أن يصل إلى أيّ مكان ولا
يتمكن من الحصول على أيّ شيء.
يعيش القرد السكران بحالة يأس لأنه يعتقد بأنّ أشباحاً تلاحقه لكي تؤذيه.
يحدث ذات الشيء، عندما نعاني نفسياً فلا نتوقف عن البحث عن حل لتعاستنا هنا
وهناك، ولن نجده بأيّ مكان.
يتمثل الحل الحقيقي بالتروي والإنتباه إلى أننا نملك كل شيء.
لا حاجة للبحث أكثر، لا في الحاضر،
ولا بأيّ مكان من الماضي.
بهذا المعنى، لم تكن أيّة حقبة قديمة أفضل، فهذا وهم فقط.
يكفي حاضرنا للإستمتاع الكامل
بالحياة، ويمكن أن يصبح المستقبل ممتازاً أو أفضل، فيما لو نجهز عقلنا جيداً، إن
نتوقف عن التذمر والشكوى ونُقيِّم ما لدينا إيجابيا.
لا تتوقف السعادة على إنجازات أو أوضاع مثالية:
بل على سلامتنا الذهنية.
يجب التوقف عن النظر إلى الماضي بحنين. فذاك الزمن الماضي لم يكن أفضل، هو
وهم في عقولنا.
يكمن الفارق الوحيد بأننا لم ننظر في "ذاك الماضي" إلى ما كان
"قد مضى".
نملك قدرة كبيرة لتقدير جمال أيّ شيء وأيّ مكان. لنقدر ما هو قريب منا: فهو أسهل وأفضل من الإنشغال بجنان بعيدة.
16. المنهج الأساسيّ في العلاج الإدراكي المعرفيّ
"لا يجب أن تخاف من أيّ شيء".
يعرف الشخص الناضج بأنه لا يوجد شيء يدعو للخوف.
لا يجب الإحساس بالخوف من شيء، على الأقل، لسببين:
السبب الأول، هو أن "كل شيء إلى زوال". في عالم زائل كعالمنا،
حيث نموت كلنا سريعاً، لا يوجد شيء مأساوي عملياً. هذه هي الخلاصة التي توصل رهبان
كاتوليك لها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، الذين مارسوا التأمل وهم يمسكون
جماجم الموتى بأيديهم.
السبب الثاني، هو حاجتنا للقليل لنعيش على خير ما يرام، فلهذا، لن تؤثر أية
خسارة على سعادتنا عملياً.
وهي الخلاصة التي وصل غاندي إليها عندما أسس لجنة زراعية. فقد تخلى عن
أموال معتبرة تأتيه من عمله كمحامي قضايا مدنية لكي يعيش وسط الطبيعة مع أصدقائه.
في حال اعتقادك بهذا على نحو عميق، في حال اقتناعك بتلك الأدلة (وبغيرها)،
فستتلاشى مخاوفك بالتدريج.
يُشكِّلُ هذا المنهج الأساسي في العلاج الإدراكي المعرفي:
يجب أن يُقنِعَ الشخص نفسه بأنه لا يوجد شيء مخيف، لكن، بالطبع، يجب حدوث
هذا بصرامة وعمق.
إن تعتقد به فعلاً، فستحسه هكذا!
ترتبط كل المخاوف ببعضها البعض عبر التهويل.
عندما تخفف أحد المخاوف، فأنت ستخفف باقي المخاوف.
17. التقدير الذاتيّ
نسمع من حين لآخر، التالي:
-
لدي تقدير ذاتي ضعيف للغاية. كيف يمكنني زيادته أو رفع منسوبه؟
في الواقع، لا توجد مشكلة من هذا النوع!
أنا ليس لديّ تقدير ذاتيّ مرتفع ولا منخفض.
لدي ما لدى كل العالم، التقدير
الذاتي المألوف الواقعيّ السليم.
ما الذي أقصده بكلامي هذا؟
التقدير الذاتي عبارة عن غلطة كبرى أو مشكلة.
لا يتوجب علينا كأشخاص امتلاك تقدير ذاتي مرتفع، بل يتوجب علينا جميعاً
تقدير أنفسنا كما نقدر باقي الكائنات البشرية:
ككائنات رائعة لأننا أشخاص ببساطة.
وهو ما يشبه نظرتنا للحيوانات البرية، فكلها جميلة ورائعة في الطبيعة.
تملك جميعها تقريباً ذات المزايا
الفطرية:
فالنسر الشامخ لا يزيد شموخه عن شموخ نسر آخر. واللبوة رائعة تصطاد وتحكم
الغابة مثلها مثل أية لبوة أخرى.
فلماذا يضع البشر فروقات جمة بين بعضهم البعض؟
لا يمتلك هذا أيّ معنى.
يجب أن نفهم بأنّ تقديرنا الذاتي يُبنى على أشياء أخرى مختلفة عن واقع
كوننا هامين أو لدينا أشياء كثيرة؛ يمكن أن يُبنى على واقع أننا أشخاص لدينا
الكثير من الإمكانات أو المؤهلات.
يرتبط القبول غير المشروط للذات بقبول الآخرين دون شروط كذلك.
كبشر، نحن حيوانات منطقية، فعندما لا تقبل الآخرين دون شروط، فلن تقبل نفسك،
عندما تخطيء أو عندما يقيمك شخص آخر بشكل سلبي.
أحد الأشخاص، الذين حدثونا عن القبول غير المشروط، بأفضل صيغه، هو المهاتما
غاندي، الناشط السلمي الهندي مطلع القرن العشربن. لنتذكر بأن غاندي تمكن من تحقيق
استقلال بلاده من الاحتلال البريطاني دون إطلاق رصاصة واحدة.
وحقق هذا بفضل فلسفته المبنية على القبول غير المشروط.
لا يقوم التقدير الذاتي الممتاز على قاعدة أن الشخص ينفع أو ذو قيمة، بل
بأن الجميع ينفعون وذوي قيمة.
من المهم قبول الآخرين على نحو غير مشروط، لأننا بهذا نقبل أنفسنا دون
شروط.
18. "الاكتفاء أو القناعة" مقابل عدم الاكتفاء
استخدم أخصائي علم نفس معرفي شهير هو أنطوني دي ميلو كلمة
"الإكتفاء" لتحديد نمط تفكير الأشخاص القادرين على التحكُّم بإنفعالاتهم.
يعني مُصطلح "الإكتفاء" بأننا نحن البشر، نحتاج إلى القليل لكي
نبدو بأحسن حال.
يقول "الاكتفاء" لي "أنا املك ما يكفي" في كل لحظة من
الحياة وفي كل شيء.
فيما تشكّل العُصابيّة، وبصورة معاكسة، نوع من عدم الاكتفاء الذهنيّ.
ينتشر العُصاب بين البشر بشكل مضطرد.
في الوقت الراهن، حوالي 30% من الأشخاص بوضع سيء على المستوى الإنفعالي،
وربما يصل الأمر ليصبح أسوأ ببعض الأحيان.
كي نفهم لأيّ مستوى من التطلُّب الزائد قد وصلنا، يمكن أن نُقارن أنفسنا مع
أجدادنا أو أجداد آبائنا.
لكي نتحول إلى أشخاص سُعداء، يتوجب علينا اكتساب فضيلة "الاكتفاء =
القناعة"، التي ستشكّل الدافع لجميع البشر، وتبين أننا نحتاج إلى القليل
لنعيش حالة من الغبطة.
بشكل مؤكد، نحتاج فقط إلى طعام
وماء يومياً، وربما نحتاج لمأوى في أيام البرد لا أكثر ولا أقلّ.
يُحكى بأنّ القديس فرنسيس الأسيزي، وعندما اقترب أجله، قال:
"أحتاج لقليل من الأشياء، وتقلُّ حاجتي لهذه الأشياء القليلة، التي حتاجها،
تدريجياً".
ويشكّل هذا القول إيجاز لإستراتيجيته العامة في التحوُّل إلى شخص قويّ.
يُنقَلْ عن الفيلسوف الشهير ديوجين، القصّة التالية:
خلال وجود ديوجين في مدينة كورينثو، وصل الغازي الأكبر الاسكندر المقدوني
إليها.
جلس الفيلسوف تحت أشعة الشمس وبالقرب من نفق كبير ينام فيه، وهو عبارة عن
جرّة ضخمة مدفونة بالقرب من سلالم تشكّل مدخل إلى الرَحْبة أو مكان الإجتماعات
العامة عند الإغريق.
استقبل السكّان الإمبراطور على رأس جيشه العرمرم. تمشى الإسكندر في المدينة
وبعد إلقاء التحيّة على النبلاء، رغب بالتعرُّف على ديوجين قبل أن يغادر. أصدر
أوامره بإحضاره إلى مقرّه.
الفيلسوف، غير العابيء بأبهة الملك، لم يتحرك من جانب النفق.
فذهب الإسكندر إليه.
أيها الفيلسوف، قال الإسكندر، أنا معجب بك جداً. لقد حولت خطّ سيري كي
أتعرف عليك فقط. كنت سأجلب لك هدية، لكن، لم أجد شيئاً يليق بمقام معلّم عظيم
مثلك. اطلب ما تشاء وسيحضر في الحال.
-
حسناً. سأطلب منك شيئاً واحداً فقط:
ابتعد قليلاً، كي أتابع أخذي
لحمَّامي الشمسيّ!
يُحكى أنّهم عند المسير، بدأ رجال الإمبراطور بانتقاد الحكيم.
لكن، أوقفهم الاسكندر، قائلاً لهم:
-
في الحقيقة أقول لكم، لو لم أكن الإسكندر، لوددت أن أكون ديوجين.
لن نبدو أشخاصاً أصحاء نفسياً، أبداً، فيما لو نُلزِمُ أنفسنا باحتياج
أشياء أبعد من الحصول على الطعام والشراب اليوميّ.
فيما لو ندخل ضمن آليّة عدم الغكتفاء، إثر إشباع واحدة من تلك المتطلبات،
ستأتي أخرى وأخرى وأخرى إلى ما لا نهاية.
ولا تليق أيّة واحدة منها، مهما بدت ممتلكة للفضيلة، بعقل شخص قادر على
التحكُّم بإنفعالاته.
تتأسس الفلسفة الجيّدة على "الاكتفاء أو القناعة" سواء بما هو
ماديّ أو بما هو غير ماديّ.
هناك علاقة طردية، كلما زاد "الإكتفاء":
ازدادت القوّة والحريّة والصحة
الذهنية.
يتبع
مواضيع ذات صلة
العلاج المعرفيّ (1) مقدمة ومصادر هذه السلسلة
العلاج المعرفيّ (2) في أصل الإنفعالات الحسيّة
العلاج المعرفيّ (3) الإستفظاع هو أمّ جميع الإضطرابات الإنفعالية
العلاج المعرفيّ (4) الرغبات والإحتياجات
العلاج المعرفيّ (5) الإنشغال الزائد وروتين النقاش المعرفيّ
العلاجُ المعرفيُّ (6) الملل والخجل وإتخاذ القرارات
العلاجُ المعرفيُّ (7) الصداقة وإطلاق الأحكام والشجار والتهدئة
العلاجُ المعرفيُّ (8) العدالة وضرورة العمل
الفارق بين علم النفس المعرفي وعلم النفس السلوكي
العلاج المعرفيّ (9) الإحباط والمعاناة من الواجبات والإهتمام بالصحّة
No comments:
Post a Comment