49. علم صراع جديد
خلال سير درويش (شيخ طريقة) وتلميذه بأحد الدروب الهادئة، قد إنتبها إلى ما
يُشبه عاصفة رملية خفيفة، تبيَّنَ أنها نتجت عن مرور عربة أنيقة، تجرُها أربعة
أحصنة بيضاء بأقصى سرعتها. لدى إقتراب العربة منهما، لم تتوقف ولم تبتعد عن منتصف
الطريق، ما دفعهما إلى القفز إلى حفرة بجانب الطريق، وقد أزداد حجم الغبار في
الجوّ ولوَّثَ ثيابهما حتّى.
فكَّرَ التلميذ بتوبيخ مَنْ في العربة، لكن، قبل أن ينبس ببنت شفة، تقدَّمَ
المُعلِّم وقال:
-
لتغمر السعادة حيواتكم!
إندهش التلميذ الشاب وسأله:
-
لماذا تتمنى السعادة لهؤلاء الأوباش؟ كادوا يدعسوننا!
-
هل تظنّ لو أنهم سعداء سيزعجون الآخرين كما فعلوا؟ - أجابه المُعلِّم الرزين.
هناك مئات، وربما آلاف، الكتب الخاصة بالنزاع. هي دراسات متخصصة بتقديم
الحلول لتلك النزاعات: بين أفراد وبين منظمات أو بين أمم.
لكن، على مستوى السلامة الذهنية، وهو جوهر العلاج المعرفيّ النفسيّ، فأفضل الحلول
للصراعات أو النزاعات هو الإقتناع بالعبارة التالية:
"إنسَ الربح: إعتمد المودة أو المحبة".
لنتذكر بأننا
كبشر نصبح أضعف مع الإحتياجات؛ وأقوى مع التخلي عنها.
يتوجب عدم الغرق
في تطلُّب البعض من البعض الآخر والدخول في دوّامة من التطلبات المبالغ فيها.
عندما يبالغون في مطالبتنا، ندخل في نطاق المبالغة في الطلب من الآخر كرد فعل
مُعاكس:
"أنت تطلب
مني أن أصبح عادلاً بهذا، وسأصير يوم تصبح أنت في المقلب الآخر".
في المقابل،
عندما يقترحون علينا بنوع من المودة، ننفتح على التغيير.
يجب تنشيط علم
التربية الجيد وفن الإقناع المُمتع، أي حلّ النزاعات دون دفع ثمن إنفعالي حسيّ
ودون توظيف القوّة. على العكس، من الأفضل الإحساس بأننا نستمتع بالحدث فنتعلم
وننمو.
في الواقع،
حياتنا مليئة بالأخطاء، بسبب:
الأنانيّة،
العنف اللفظي، الغيرة، العدوانية السخيفة؛ بل حتّى لدى المحاولة الدائمة للظهور
كأشخاص طيبين، ندخل بمتاهات غير مرغوبة.
وفق هذا المعنى،
قال أوسكار وايلد الرائع:
"مع أفضل النوايا،
تُرتكَبُ أفظع الإنتهاكات".
لكن، لا شيء من
هذا جوهريّ لسعادة أحد. في الواقع، هي أشياء طفولية.
عندما نصبح
متطلبين، نعتقد بسذاجة بأنّ أخطاء الآخر لا تُغتفَر أما أخطاءنا فهي تفاصيل لا
أهمية لها. نتسامح مع أنفسنا ولا نرحم الآخرين. من حين لآخر، نقول لأنفسنا:
"أنا لا
أفعل هذا أبداً!"، لإضفاء الأهمية على خطيئة الآخر.
لا ننتبه إلى
أننا غير منصفين، فالمألوف والعادي أن يقع الشخص بأخطاء متنوعة مختلفة؛ الغريب
والعجيب هو عدم حدوث هذا الأمر.
مبدأ القبول
اللامشروط للآخرين بالغ الأهمية في علم النفس المعرفي لأننا، فقط، من خلاله يمكننا
إمتلاك "قبول لامشروط للذات"، أي التعامل الذاتي بمودة ومحبة لدى إرتكاب
الخطأ. لا تجلد ذاتك بغباء بسبب الأخطاء لأنّه أمر أساسي بإمتلاك تقدير ذاتيّ
قويّ.
وسنصبح لطفاء وتربويين مع أنفسنا، فقط، عندما
نتعامل هكذا مع الآخرين.
كذلك، من يعاقب من الأشخاص، يعاقب نفسه، والعكس
بالعكس.
50.
تعلُّم التحاور
بأحد الأيام،
زار المولى ناصر الدين الجحيم وتفاجأ بما رآه هناك.
فقد جلس جمع
غفير حول مائدة مليئة بأطباق من كل شكل ولون وطعم.
مع هذا، بان
الهزال عليهم وأكلهم الجوع!
فقد وجب عليهم
تناول الطعام بإستعمال عيدان طويلة كالمجاذيف، وعندما أمسكوا بالطعام لم يتمكنوا
من إيصاله إلى الفم.
إثر ذلك،
توجَّهَ ناصر الدين إلى الجنّة فإندهش عندما رأى طاولة مماثلة فيها وحولها جمع
غفير، كذلك، يأكلوا بعيدان طويلة كالمجاذيف.
في هذه الحالة،
مع ذلك، بدوا أصحاءاً نضرين.
ففي الجنّة، أخذ أشخاص الطعام لكي يغذوا آخرين
بجانبهم.
بالعموم، نتحاور
بطريقة بشعة. نسعى إلى فرض رؤيتنا، وهو ما يقود النقاش إلى بوابة مغلقة.
الحوار وتبادل الأفكار عبارة عن مهارة أساسيّة
للسلامة الذهنيّة، لسببين:
الأوّل، لأننا
لا نعرف كيفية القيام به، بالعموم، وبكثير من الأحيان، ندخل بنقاشات تُخرِّب لحظات
يمكن أن تبدو جميلة.
الثاني، وهو
الأهمّ، لأننا سنُغيِّر كامل ديناميتنا بفهم العلاقات البشرية وسنتعلم الإستمتاع
بالناس والتحكُّم بأشخاص صعبين بمهارة.
التقنية
الأساسيّة بتعلُّم النقاش بفعالية هي ما يمكن تسميته "الحوار الشامل"،
فهو نمط معتمد لدى أذكى الأشخاص! بشكل أساسيّ، يقوم على البحث الدائم عن الحقيقة
لدى الآخر قبل عرض حقيقتنا. يعني هذا الإهتمام، بالمقام الأوّل، بالآخر وبحقيقته،
وهو ما يحولنا إلى أشخاص مؤثرين فعلاً!
يقوم الحوار
الشامل على التفكير – قبل التفوُّه بشيء – بمدى صوابيّة طرح الشخص الذي نختلف معه.
الحقيقة = شيء
زِلِق.
ليس هناك حقيقة
واحدة بل حقائق كثيرة. حتى على مستوى الظواهر العلمية. فعلياً، التفسيرات العلمية
عُرضة للمُراجعة المُستمرة.
الحقائق الاخرى،
حقائق الشارع، هي أكثر نقصاً حتى. فما نُعبِّرُ عنه – حول السياسة والأخلاق
والعلاقات وسواها – يتوقف على المُعاينات واللحظات التاريخيّة. عادة ما تصبح رؤى
قد أكل الدهر عليها وشرب.
يعرف الشخص
الذكي هذا الأمر ويأخذه بحسابه. لا يعرف الشخص الطائش العنيد هذا الأمر.
لا
أحد لديه الحقّ كليّاً حول أيّ شيء أبداً!
ما يمكننا عمله
هو التوصُّل لإتفاقات وإستخلاص نتائج مفيدة، تضعنا بموقف ممتاز بمواجهة الواقع. لا
أكثر. لا شيء إسمه حقائق مُطلقة، لا شيء من "لديّ الحق"، لا شيء من
"أنا ذكيّ، أنت غبيّ"!
تتألف تقنية
الحوار الشامل من ثلاث خطوات، هي:
البحث عن حقيقة
الآخر.
عرض رؤيتنا.
تضمين الآخر في
عالمنا.
الخطوة الأولى
هي الأصعب لأنه فيها ينتج الإنفتاح الذهني الأصليّ وتعلمنا على أن نصير أشخاص أذكى
وأسلم ذهنياً. البحث عن حقيقة الآخر هو تمرين على التواضع وهو ما لا نتعوَّد على
القيام به. علمونا على الرغبة "بإمتلاك الحقّ" و"الدفاع عن مواقفنا"
وهذا محض غباء لأنّ لا أحد لديه كامل الحقّ.
يقوم
"تضمين الآخر بنطاق حيواتنا" على إستخدام كلمات لطيفة معه لأجل تفادي
إحساسه بالرفض خلال النقاش.
51.
تعلُّم قول "لا"
أحد الأيام،
أحضر الملك فرخي صقر رائعين إلى مُعلِّم البزدرة (فنّ تدريب البزاة)، قد تلقاهما
كهدية. بحماس كبير، أعطى الأوامر لتجهيزهما لأجل الصيد.
بمرور بضعة
أشهر، سلَّمَ المُعلِّم صقراً جاهزاً للصيد، لكن، أخبر الملك بأن الصقر الآخر لم
يتعلم شيئاً ولم يتحرك من مكانه منذ يوم وصوله ولم يصطد وجرت تغذيته باليد.
نادى الملك على
جميع المهتمين بهذه القضيّة، لكن، لم يتمكن أحد من تغيير وضع الصقر.
غضب الملك ونشر
مرسوماً مُعلناً فيه بأنّ أيّ شخص يمكنه تحسين وضع الصقر سينال مكافأة.
في اليوم
التالي، ومن النافذة، شاهد الملك الصقر وهو يطير في حدائق القصر.
- أحضروا لي صاحب المُعجزة
– طلب الملك.
وظهرت
المُفاجأة، عندما جلبوا قروياً بسيطاً ووضعوه أمامه.
- كيف تمكنت من تطيير
الصقر؟ هل إستخدمت نوعاً من السحر؟
أجاب الرجل
بحياء:
- لم يكن الأمر صعباً، يا
جلالة الملك. لقد قطعتُ الغصن الذي وقف عليه الصقر فقط، وبدل أن يسقط على الأرض
بدأ بالطيران.
في عالم علم
النفس، هناك الكثير من الأبحاث حول الموضوع الشائك المُتمثِّل بمعرفة كيفية قول
"لا أو كلّا".
يبدو بالنسبة للكثيرين رفض شيء للآخر أمراً
مريعاً.
على ما يظهر،
يُعاني يابانيُّون من هذه الصعوبة وتتعقد حيواتهم أكثر لأجل هذا السبب.
لكن، في الواقع، تأثرنا كلنا بهذه المشكلة بلحظة
ما. حيث يطلب أصدقاء المال منّا؛ تدعونا عائلة إلى حفل ما؛ وغيرها الكثير من طلبات
يصعب علينا رفضها ونقبل لأننا لا نعرف قول "لا".
مرّة إثر أخرى،
نجد انفسنا بمواجهة الندم لأننا أقرضنا المال أو لبينا الدعوة إلى مناسبة لا معنى
لها وبلباس رسمي لا نُطيقه!
بعض المباديء
الإدراكية المعرفية التي تسمح بتحسين قدرتنا على قول "لا"، هي بشكل
أساسيّ، عبارة عن فهم:
أ. لا أحد يمكنه
إسعاد أحد
هو أحد المباديء
الأساسيّة بعلم النفس العقلاني:
فلا أحد يمكنه
إسعاد أحد، هو واقع قائم في قاعدة القدرة على قول "لا".
كما رأينا،
تتأسس السلامة الذهنية على الفهم العميق لإحتياجاتنا القليلة لكي نعيش بسعادة. حين
تتحقق هذه الإحتياجات الأساسيّة، فالسعادة شأن عقليّ:
فإما نُنشِّط عقلنا لنحيا بسعادة أو لا نفعل هذا
الأمر.
في الواقع،
يتوقف هذا الأمر علينا أو على كل واحد منّا.
أحد الأخطاء التقليدية الراسخة، أننا تعودنا على
التفكير الخاطيء بأنه لو زرنا جدّنا في ملجأ كبار السنّ، فسنجعله سعيداً.
خطأ! تتوقف
رحابة وسعادة الجدّ عليه وحده.
على نحو أدقّ،
تتوقف على عقله.
ب. أفضل ما
يمكننا تقديمه للآخرين هو الفرح
من جانب آخر،
أفضل مساعدة يمكننا تقديمها لأحد:
أن نبقى مشعين
وسعيدين وإصابته بعدوى جزء من هذه الطاقة.
بهذه الطريقة،
نُبيِّنُ له طريق المنعة الذهنية عن طريق المثال. ويقضي هذا بأن يهتم بنفسه.
التمييز بين
"المساعدة" و"التعاون" ليس سهلاً، لكن، يستحق الأمر بذل الجهد
لأنّ الفلسفة العميقة تُغيِّر كل شيء. لنرى بعض المعطيات الخاصة بالأمر:
التعاون هو
الإستمتاع والنموّ والتعلُّم.
يساهم التعاون
بتفادي أداء عمل للآخر حيث يمكنه هو عمله بنفسه.
يعني التعاون
بأنّ الآخر لديه قُوّة ويُقدِّمُ الكثير بالمقابل أيضاً.
تعني المساعدة،
كذلك، بأنّ الآخر لا يعرف أو لا يستطيع؛ أي نحن متفوقون على "المُساعَد"
أو أننا مُحتاجين "لمن يساعدنا".
ت. تُشكِّلُ
الأكاذيب البيضاء جزءاً من الحياة
هناك عبارة،
تقول:
"لكي تنسجم
مع نفسك، عليك قول الحقيقة لنفسك؛ لتنسجم مع الآخرين، لا تفعل هذا الأمر!".
أمر حسن أن نكذب أحياناً!
في الواقع،
الأشخاص الذين لا يعرفون القيام بهذا الأمر – على سبيل المثال، المُصابون بمتلازمة أسبرجر – يمكن أن يواجهوا مشاكلاً لهذا السبب،
فهم قادرين على قول شيء لفتاة سمينة قد تعرفوا عليها للتوّ مثل:
"لكن، أنتي سمينة للغاية؛ لم أرَ أبداً
أحداً هكذا!".
من حين لآخر،
علينا قول أكذوبة لأنّ العالم ليس مثالياً ولا كاملاً، ولن يصبح هكذا أبداً!
لسنا بالغين
جميعاً إلى الدرجة التي نرغب بها ونُصاب بالتوتُّر أو نشعر بالإهانة بسهولة، نصبح
ساذجين، ننزعج ونمتلك عدد لا يُحصى من ردود الفعل المتشنجة. هذا عاديّ.
إن نتمتع
بالذكاء والمرونة، سننتبه إلى أنه من الغباء وقلّة الحكمة قول الحقيقة بكل لحظة.
بهذا المعنى،
ساعة قول "لا"، يا مرحباً بالأكذوبات!
ث. قبول
"كلّا أو لا" أفضل دليل على الصداقة
تتمثل
الإستراتيجية الأخيرة لتعلُّم قول "لا" بفهم السلبيّة كدليل رائع على
الصداقة.
عبارة عن قول:
"إن يحبني
صديقي فعلاً، فلن يهمه رفضي للأمر أو لغيره".
لا تُحرِّكُ
المصلحة الصديق الحقيقي، بل المودة أو المحبة.
فإن ينزعج من
رفضنا لشيء ماديّ أو ينسحب من الصداقة، فهو ليس صديقاً حقيقياً.
وبهذه الحالة،
لما الإحتفاظ بعلاقة كهذه؟
قول
"لا" لأحد، هو وضع صداقة شخص قيد الإختبار.
في هذا المعنى،
رفض تقديم الخدمات أمر رائع.
52.
ثورة مع حبّ
طلب فيلسوف شهير
موعداً لنقاش المولى ناصر الدين. في اليوم المُحدّد، وفي الساعة المُعيَّنة، طرق
بابه.
لم يجب أحد.
كان قد نسي
المولى الموعد وتواجد في المقهى ليحتسي الشاي ويلعب الداما.
أصاب الإنتظار
الفيلسوف بالتوتُّر بمضي الوقت. وبالنهاية، وقبل ذهابه، أخذ قطعة طباشير وكتب على
الباب:
"أكبر
غبيّ".
لدى عودته إلى
البيت، رأى ناصر الدين المكتوب، فجرى متوجهاً إلى منزل المدعو.
- أعتذرُ كثيراً! نسيتُ
موعدنا بشكل كليّ – قال -.
وقد تذكرتُ الموعد بعدما عدتُ إلى بيتي ورأيت
إسمك مكتوباً على الباب!
الغضب هو أسهل
شيء في العالم، بل تعرف جماعات الشمبانزي والأورانغتون هذه التقنية جيداً. وبعكس
هذا، نجد الحفاظ على النضج الفلسفي والقدرة على التحليل لدى أذكى الأشخاص.
إن نرغب بالتحوّل لأشخاص هادئين وعقلانيين، لا
يمكن أن نترك أنفسنا تحت هيمنة السخط. فالغضب والنرفزة من إختصاص الأشخاص
المُضطربين.
لمُدمني الكحول
نوبات غضب مُريعة مُتكررة. أن تغضب فليست خصلة جيدة، بل يكفي حضور بضعة عصبونات
متعرضة للأذى.
السخط عبارة عن
صيغة تهويلية أو عُصابيّة.
الأكثر فعالية
هو تنفيذ الحلول إنطلاقاً من السعادة لا من التوتُّر والإنزعاج.
يقوم مفهوم
اللاعنف للمهاتما غاندي على الإلتزام بتجاهل عدوانيّة الآخر لكي يسود الحب والتخلي
عن الراحة وعن العدالة وعن المكانة أو أيّة فائدة حين تقضي بإستعمال العنف.
علَّمنا غاندي أنه بإمكاننا تبني أيّ شيء، طالما أننا سنتعامل معه بمحبة. للتذكير
بأنّ هذا الناشط الهندي قد أثبت بأنّ اللاعنف – المثابرة المحبة – يمكن أن تصبح
فعّالة أكثر من العنف. في الواقع، حقَّقَ إستقلال الهند دون إطلاق رصاصة واحدة:
فقط مع مسيرات
سلمية.
وإزاء العنف
البريطاني، طبَّقَ المحبة الشجاعة والعزم.
لا شيء أكثر ولا شيء أقلّ.
نحن بإمكاننا
محاكاة فعل غاندي لزرع اللاعنف في حيواتنا الشخصية والإجتماعية.
ننسى بشكل مستمر
بأنّ النزاعات منهجيّة تقريباً.
ماذا يعني هذا؟
يعني بأنّ
النزاعات والمصائب والأخطاء لها أسباب عديدة – ليس سبباً واحداً فقط – وتتفاعل هذه
الأسباب فيما بينها.
بالعموم، تسرُّنا
التفسيرات البسيطة، رغم عدم عملها.
نُفكِّرُ بالطريقة التالية:
"لا نضع
عدّة عوامل في التحليل، فالأفضل هو التفسير بإستخدام عامل واحد فقط!"،
"إبحث عن مذنب، لا عن كثيرين"، "صمِّم حلاً، لا مجموعة من
الحلول".
هذا التبسيط
خاطيء لأنّ هناك عدد لا حدّ له من المشاكل، التي لا يمكننا تفسيرها هكذا:
أحياناً، ليس
هناك علاقة سبب – أثر من النوع الخطي، بل يتغير حجم المؤثرات وهناك عدد من الأشخاص
أو الجماعات الداخلة بالأمر.
لأجل حلّ
المشاكل، يجب التفكير بصيغة متعددة المتغيرات.
الثورة
العقلانية، سواء كانت ضدّالإستبداد أو لأجل إستقلال بلد أو لأيّ سبب آخر، يجب أن
تُكمِلَ الشروط التالية:
طرحها
بإيجابيّة: الإستمتاع بالحدث، التعلُّم من هذا المشروع والعمل وتمضية الوقت بروعة.
تضمين الخصم
بعملية النموّ: إقناعه بأنه سيتعلم هو أيضاً، وسينتفع من التغيير القادم.
توفير المحبة
بشكل مستمرّ، سيما حين يرجع الخصم إلى جنونه.
عدم ممارسة
التهويل أبداً؛ فالمبالغة بحجم الشرور بوضع ما، ستجعلنا نتألم فقط.
لأننا جميعاً
سواسية:
خسيسون ببعض
الأحيان وأبطال في أحيان أخرى؛ عباقرة ببعض الأشياء وأغبياء بأشياء أخرى.
وفي العمق، هناك
ضوء يُنير دربنا جميعاً.
هو ضوء المودة
غير المشروطة.
53.
الإعتناء بالنفس
كرَّسَ الحاخام مائير كوهين حياته لدراسة الكتابات المقدسة. هو
أحد المرجعيات المُقدَّرة بجميع أنحاء العالم، وقد تُرجِمَت عظاته إلى الكثير من
اللغات، سيما العظات الخاصة بخطيئة التحدُّث بالسوء على الآخرين أو النميمة.
بإحدى
المناسبات، تواجد في قطار بطريق العودة إلى المنزل وتعرَّفَ على مسافر آخر، فسأله
عن وجهته:
- ذاهب إلى العاصمة لكي
أتعرف على الحاخام الأكبر مائير كوهين.
أعجبت المُصادفة
الحاخام ورغب بمعرفة المزيد من آرائه حوله، فسأله:
- لماذا تسميه "الحاخام
الأكبر"؟ ما هي خصوصيته؟ أرى بأنه شخص عادي مثله مثل الآخرين.
- كيف تتجرأ على الكلام
بهذه الطريقة على حكيم لا مثيل له؟ صرخ المُسافر، وبذات الوقت، صفعه بشدّة.
بمرور عدّة
أيام، في المدينة، قدَّمَ الحاخام مائير كوهين محاضرة في الجامعة. لدى إنتهائه،
إقترب ذاك المُسافر منه مُطأطأ الرأس ليطلب الصفح، فقد صفع الحكيم ذاته الذي دافع
عنه!
- أيها السيِّد! ما الذي
فعلته بحقك أنا؟ أستسمحك العذر! – قال المُسافر.
- ليس هناك ما يدعوك لطلب
الصفح، فلقد علمتني شيئاً حيوياً:
أهمية عدم الكلام بالسوء على الآخرين، سيما على
الذات.
نصبح كأشخاص
عُصابيين بسبب الإفراط بالتطلُّب. نُطالب أنفسنا بشكل زائد عن الحدّ وكذا نفعل مع
الآخرين ومع العالم.
عندما نُخطيءُ
نحن، نقول لأنفسنا:
"أنا فاشل كلياً، لا أنفع لعمل شيء!".
تُقوِّض معاقبة
الذات تقدير الذات وتقود إلى الإكتئاب.
هناك الكثير من
الشباب بأعمار بين 20 و30 عام ويجلدون أنفسهم بعنف بسبب عدم إمتلاكهم لنجاحات. لم
ينتبهوا إلى أنّه ليس النجاح أو الفشل ما يجعلهم تعساء، بل التطلُّب الذاتي
السخيف. وعلاوة على هذا، من المفارقات، أن هذا يساهم بعدم تفعيلهم لطاقاتهم
الواقعية أو لإمكاناتهم القائمة لديهم فعلاً. العائق الحقيقي هو تفكيرهم "كل
شيء أو لا شيء"، الذي يزيد مخاوفهم لأنه يضعهم بين السيف والجدار. إن يتوقفوا
عن المُبالغة بمُطالبة الذات، سيتحسن وضعهم وينتقلوا للإشعاع فوراً وبشكل طبيعي
وبلا إنتباه حتّى.
التعليم الجيِّد
هو مُسلي وآمن دوماً. فيجري كل تعليم، بشكل أفضل، من خلال الشغف لا عبر التخويف.
المُبالغة في التطلُّب عبارة عن تدمير ذاتيّ. يمكن تحقيق بعض الأشياء بجلد الذات،
لكن، تبقى أشياء قليلة مقارنة مع الأشياء المحققة بالمحبة والشغف.
لا يتعارض
الإعتناء بالنفس مع التحسُّن والتعلُّم والعمل وبذل الجُهد. في حالة مُعاكسة، يشعر
الشخص بالثقة والأمان عندما يستكشف الوسط المحيط بشكل أفضل.
يحصل النمو
الشخصيّ دون عجلة، لكن، دون توقُّف. أي يجب الجمع بين العمل المتواصل للقضاء على
جميع المخاوف مع الإعتناء الناجح بالذات. كذلك، يستلزم النمو الشخصي مواجهة ملموسة
للأوضاع المُقلقة، وبهذا، نتمكن من الإشتغال عليها.
إستعمال مضادات
الإكتئاب والقلق تحت إشراف طبي بشكل منتظم صيغة مقبولة لإعتناء الواحد بنفسه.
54.
تعلُّم التعلُّم
مشى شاب من بلدة
إلى أخرى قاطعاً سلسلة من الجبال. بلحظة معطاة، بدأ الضباب الكثيف بتغطية المنطقة.
أسرع الفتى خطوه ليصل بسرعة، لكن، تعثَّرَ بأحد المنعطفات وهوى في الفراغ.
خلال سقوطه،
حرَّكَ ذراعيه بحركة يائسة وتمكن من إمساك غصن شجرة.
أيُّ حظٍّ هذا، لقد أُنقِذَت حياته!
لكن، كيف سيهبط؟
فالمكان مرتفع
ولا يُرى شيء بسبب الضباب الكثيف. هناك معلق على الغصن، وسط اللاشيء، أحس بالضياع
وصرخ:
- يا ربّ، ساعدني!
وفجأة، وصل صوت
واضح ومُدوي إلى عقله:
- إهبط، ثِقْ بي.
هزّ الفتى رأسه.
ربما أصابه نوع من الهلوسة. برد الجوّ وصار المساء. فصرخ من جديد:
- إن تكن هنا، أيها الربّ،
ساعدني. أموت من البرد!
ومن جديد، الصوت
داخله:
- إهبط. ثِقْ بي.
بمرور ثماني
ساعات، بزغ الفجر ومرّ بضعة شبان من ذات المكان. وجدوا في المكان، الذي سقط إليه
الفتى، عصاه.
نظروا إلى جانب الطريق وإندهشوا بعدما رؤوا
الفتى ميّتاً من الصقيع ومتمسكاً بالغصن.
لكن، لم يكن في
الأسفل أيّ فراغ بل طريق آخر على بعد متر واحد فقط من قدميه المتجمدتين.
بسبب كثافة
الضباب، لم ينتبه إلى عدم وجود أيّة هوّة سحيقة بل طريق آخر قد عبر الجبال.
تُجسِّدُ هذه
القصّة ما يسمى "أثر الهاوية غير الموجودة"، أي الإعتقاد الخاطيء بأننا
لا نصلح لعمل أشياء محددة مثل الرياضيّات أو الرقص أو البحث والدراسة ...الخ وهي
أفكار خاطئة عن عجز يُعيقنا إلى أن يحولنا إلى عجزة فعلياً.
تظهر هذه
"التقييدات الذاتيّة"، عادةً، في نطاق المدرسة والعمل وتتسبب بحدوث
عطالة كبيرة.
فعلياً، يستطيع
الإنسان تنفيذ أشياء غبيّة للغاية مثل شرب الكحول لدى مواجهته مشكلة ما، عوضاً عن
تناول شيء يساعده على التركيز والهدوء ليبحث عن حل للمشكلة بأفضل صيغة ممكنة.
هكذا، حسناً،
لدى مواجهتنا مهمة تُزعجنا، يتمثل الحلّ بإعتبارها هُوّة لا وجود لها.
عندما نقول
لأنفسنا:
"لا أصلح
لهذا الأمر"، نمارس عملية تقييد ذاتي بغباء. بإمكاننا جميعاً تحقيق أيّة مهمة
تقريباً بنجاح كبير.
الخوف من
الإستهزاء خلف "أثر الهُوّة الغير موجودة".
يمكننا تفادي
التقييدات الذاتية، إن لا نقبلها، نتحرر من الضغط ونُخطِّط لعمليّة تعليم جميل.
شرط تجاوز
التقييدات الذاتيّة هو التركيز على الإستمتاع.
من المهم إبقاء
العيون مفتوحة ومواجهة المهام الغير محببة لنا. يمكننا تنظيم شؤون تنفيذ المهام من
خلال تسجيل اهم الخطوات اللازمة.
إنتهى
مواضيع ذات صلة
العلاج المعرفيّ (1) مقدمة ومصادر هذه السلسلة
العلاج المعرفيّ (2) في أصل الإنفعالات الحسيّة
العلاج المعرفيّ (3) الإستفظاع هو أمّ جميع الإضطرابات الإنفعالية
العلاج المعرفيّ (4) الرغبات والإحتياجات
العلاج المعرفيّ (5) الإنشغال الزائد وروتين النقاش المعرفيّ
العلاجُ المعرفيُّ (6) الملل والخجل وإتخاذ القرارات
العلاجُ المعرفيُّ (7) الصداقة وإطلاق الأحكام والشجار والتهدئة
العلاجُ المعرفيُّ (8) العدالة وضرورة العمل
العلاج المعرفيّ (9) الإحباط والمعاناة من الواجبات والإهتمام بالصحّة
العلاجُ المعرفيُّ (10) مصدر السعادة والمنهج العلاجي الإدراكي المعرفي واتقدير الذاتيّ والإكتفاء
العلاجُ المعرفيُّ (11) تجاوز العُقد ولا للصراع مع الأشياء والأشخاص
العلاجُ المعرفيُّ (12) مواجهة المصائب ولا خشية من المسؤولية وضرورة تخفيف القلق
العلاجُ المعرفيُّ (13) ضرورة تجاوز الآلام والمخاوف والموت
العلاجُ المعرفيُّ (14) تحقيق التغيير والرعونة والغيرة والعيش وحيداً
العلاجُ المعرفيُّ (15) قواعد نافعة وبرمجة العقل والمنهج العلاجي المعرفيّ
العلاجُ المعرفيُّ (16) النقاش المعرفيّ ونماذج القوّة الإنفعالية ومُعايرة لأجل التناغم
العلاجُ المعرفيُّ (17) تخيلات عقلانيّة والتحكُّم بالإنزعاجات
العلاجُ المعرفيُّ (18) لا للقلق من المردودية والإهتمام باللحظات الحاضرة


No comments:
Post a Comment