36. النقاش المعرفي الإدراكي
انحنى الطفل الصغير ليدخل إلى خيمة جدته، التي جلست قرب الموقد وهي تنظف
الدرنات لتحضير العشاء. خرج الدخان بواسطة إنبوب واصل للسقف، فبقي الداخل دافئاً
ونظيفاً.
بدا الإنزعاج واضحاً على وجه الصغير، فسألته جدته بمحبة:
-
ما الذي حدث معك؟ أراك على غير ما يُرام.
-
إنه شقيقي! تركني وذهب مع الآخرين لاصطياد الأسماك. أنا منزعج جداً، لماذا تبدو
الناس سيِّئة كثيراً يا جدّتي؟
-
بسيطة، يا بُنيّ، ضمن كل واحد منّا، يسكن ذئبان:
أحدهم حنون وفرِح؛ الآخر، حسود ومُخرّب.
يتصارع الإثنان في دواخلنا.
-
ومَنْ سينتصر في النهاية؟ سأل الصغير وعيونه جاحظة.
-
لا يوجد شكّ: الذي يُغذينا أكثر – استخلصت الجدّة.
نحن نتغير من خلال النقاش مع عقلنا ذاته. بشكل متكرر، وبطريقة مكثفة،
اكتسابية، إلى أن نُغيّر طريقتنا في التفكير والإحساس.
يقوم جوهر التقنية الإدراكية المعرفية على تجاوز أو قلب الإنفعالات الحسية
السلبية:
من خلال حوار الشخص مع نفسه، مع
مُراكمة الأدلة، وصولاً إلى رؤية المصائب تحت تأثير ضوء آخر.
هو تغيير للإنفعال السلبي من خلال أفكارنا بشكل فوري!
وفيما لو نقم بهذا بشكل صحيح، سنعبر لنجد أنفسنا بوضع جديد مختلف تماماً،
نختبر إحساساً بسعادة غير معتاد وبتناغم مع العالم. يقوم، بشكل أساسي، على
اقتناعنا بأن الخبرة التي تزعجنا لا يوجد ما يدعوها للقيام بهذا الأمر، من قبيل:
انتظار طويل في المتجر، انتهاء علاقة مع الشريك / ة، ألم جسدي أو مجرد
إحساس بالقلق.
ستصبح نتيجة الحوار الذاتي على هذه الشاكلة:
"لن يمنعني هذا بأن أشعر
بالسعادة؛ بل، سأعيش يوماً رائعاً، لأنني حيّ ولديّ إمكانات كثيرة للإستمتاع، بغضّ
النظر عمّا يحدث".
هي عملية إقناع ذاتي مع أدلة.
لا نتحدث عن أفكار إيجابية صرفة.
من المهم أن نكتسب فلسفة جديدة مناهضة للتذمر والشكوى وتستند إلى العقل.
للنقاش المعرفي الإدراكي مرحلتين، هما:
1.
تحديد الأشياء التي نلتصق بها: نعتقد بأنها هامة ولا يُستغنى عنها.
2.
تنشيط التخلي: نزع تلك الأهمية الزائفة، التي نُضفيها على الأشياء.
إن نرغب بالتغيُّر إلى أشخاص أقوياء وسعداء في كل نطاقات الحياة، يتوجب
علينا البحث عن تلك القدرة على تغيير الإنفعال الحسي السلبي بكل لحظة.
ويمكننا القيام بهذا الأمر!
ربما لن نُحقق تغيير الإنفعال الحسي في جميع المناسبات، لكن، يجب علينا
القيام بالمحاولة دوماً.
إن لم نحققه، هو أمر مؤسف؛ لكن،
يجب تكرار المحاولة في اليوم التالي.
وفق هذا النظام المعرفي، سنشكل
عقلاً جديداً، أقوى وأسعد.
37. نماذج للقوّة الإنفعاليّة الحسيّة النفسيّة
دخل شاب اسمه سيرا إلى معبد، يُمارَسُ صمتاً مطبقاً فيه. فكل خمس سنوات،
يجتمع الرهبان مع الكاهن الأكبر ويمكنهم قول كلمتين فقط خلال الإجتماع.
إثر مرور فترة الخمس سنين، نُودِيَ سيرا ليمثل أمام الحكيم.
-
هل هناك ما تقوله؟ - سأل الحكيم الأكبر.
-
الفِراش غير مريح – أجاب الشاب.
إثر مرور خمس سنوات أخرى، تكرر المشهد، وسأله الحكيم:
-
هل ترغب بقول شيء؟
-
الطعام سيء! عبَّرَ الشاب.
وبمرور خمس سنوات ثالثة:
-
هل ترغب بقول شيء؟
-
دورة المياه مقرفة!
بمرور خمس سنوات أخرى:
-
هل ترغب بقول شيء؟
-
أرغب بالذهاب من هنا! أجاب الراهب.
-
جيد! لأنك منذ أن دخلت إلى هنا، لم تقم بشيء سوى التذمُّر! – أنهى الحكيم كلامه.
نرتبط كبشر بعضنا مع بعضنا الآخر. لم تتحدث العلوم حول هذا الأمر حتى الآن،
ربما بسبب هرمونات نُفرزها أو بسبب حقول مغناطيسية نُصدرها أو نُرسلها. لكن،
الصحيح هو أنه لا يوجد شيء صادم لشخص أكثر من الشخص القريب.
ذاق كثيرون الأمرَّين، على المستوى
الحسي الإنفعالي، على يد آخرين، أو تأثروا جداً بآخرين.
على سبيل المثال، شباب كثيرون، إثر حضورهم لعمل فني وتسجيلهم للإعجاب بأحد
المشاركين، قرروا تكريس حيواتهم لهذا النوع من الفنون.
هناك نماذج قديمة تاريخية للقوّة الإنفعالية الحسيّة النفسيّة، أي لشخصيّات
مؤثرة قد عاشت ظروفاً قاسية أو مأساويّة أحياناً.
كذلك، لدينا نماذج حديثة كثيرة، بينها آنا أماليا
باربوزا وهي فتاة برازيلية، قد أصيبت بشلل رباعي بعد إصابتها بمرض دماغي وهي
بعمر 35 عام. لا تستطيع تحريك أيّ جزء من جسمها باستثناء بعض عضلات الوجه. كذلك،
لا تتكلم ولا تبتلع.
مع ذلك، تعيش حياة متقدة مخصصة لتعليم أطفال مصابين بشلل دماغي والبحث ضمن
هذا الحقل العلمي. تتواصل مع العالم من خلال رفيف جفني العينين، والذي يُشير إلى
أحرف ضمن التسلسل الأبجدي. وهكذا، تكتب كتباً! كذلك، ترسم عبر برنامج حاسوبي يلتقط
حركة منطقة الذقن. هي صبية سمراء، شعرها قصير وتملك إبتسامة رقيقة.
يبلغ طولها حوالي متر وستين سنتمتر وتجلس على كرسي نقال كبير الحجم. هي
مشهورة في البرازيل، لأنها ومنذ أن حصل معها ما حصل، تقوم بعمل هام مع الأطفال
المصابين بالشلل الدماغي. حائزة على شهادة دكتوراه من جامعة سان باولو، التي
تُعتبر من أهم جامعات أميركا اللاتينية. كذلك، تؤلف كتباً حول خبرتها وتجربتها
الحيوية. يساعدها مجموعة أشخاص في تحقيق هذا الأمر دون شكّ، سيما في ترجمة حركات
عينيها كما ذكرنا أعلاه.
في لقائها مع صحيفة العالم، وعندما طلبوا منها تعريف حياتها بعد حدوث الشلل
الرباعي، أجابتهم بكلمة واحدة:
"إعادة إبتكار".
لم تتحدث عن "جهد"، ولا حتى عن "تكيُّف"، بل استخدمت
كلمة إيجابية أكثر بكثير، فقد رأت وضعها كفرصة لتعلُّم عمل أشياء جديدة، لأجل
الوصول بعمق أكبر إلى الأشخاص، لأجل إعادة الولادة بشكل جديد.
يعلمنا العلاج المعرفي الإدراكي على التخلُّص النهائي من الشكوى. لا يعرف
الأشخاص الأقوى والأسعد اللوم لأنهم يعتقدون، بصدق، بأنه لا يوجد شيء، ومهما بلغ
سوءه، يتمكن من منعهم من أن يعيشوا سعداء.
ربما يُعتبَر المبدأ، الذي يختزل فلسفة علم النفس المعرفي الإدراكي، هو:
"يمكن أن نبدو سُعداء في أيّ وضع".
سواء كُنّا في السجون؛ أو بانتظار إجراء عمل جراحي بمشفى؛ أو نُعاني من قلق
مزمن.
فكل شيء في رأسنا!
ويجب أن نفرح لأن هذا عبارة عن أمر لا ريب فيه.
كلما نمرّ بلحظات مؤرِّقة، نستذكر أولئك النماذج ونلجأ إلى قصصهم لنقوّي
التزامنا بالعلاج وبالمنعة الذهنية. من هذه اللحظة، سنشكل جزءاً من فريقهم، ممن
يعملون – دون كلل – لكي يزيدوا قدراتهم على كبح إنفعالاتهم السلبية كل يوم.
تتركز تقنية عرض النماذج على التخيُّل لعدة نماذج متمتعة بقوّة ذهنية وتقول
لنا ما يفعلونه لو حلوا مكاننا.
لم يُولَدوا حُكماء، ولهذا، يمكن لنا جميعاً أن نزيد قدراتنا الإنفعالية
الحسية.
38. مُعايرة لأجل التناغم
أتى شاب إلى موقع للحطابين لأجل طلب عمل. قَبِلَهُ المسؤول نظراً لقوته
الجسدية البادية دون التفكير بالأمر، وقال له ليبدأ العمل في اليوم التالي.
في يوم العمل الأول، قطع الكثير من الأشجار.
في اليوم الثاني، قطع أشجاراً، لكن، بعدد أقلّ.
في اليوم الثالث، عمل بجدّ، لكن، قد قلّ إنتاجه.
طلبه المسؤول وسأله عن سبب تراجع إنتاجه بشكل مضطرد:
-
متى كانت آخر مرّة شحذت البلطة فيها؟
فأجابه الشاب:
-
لم أجد وقتاً. فقد صرفتُ وقتي بمحاولة قطع الأشجار!
إحدى الأدوات الأساسيّة في علم النفس المعرفي الإدراكي هي "مُعايرة
لأجل التناغم" وتقوم على بذل جهد لتقدير ما يُحيط بنا.
يُعلمنا علم النفس المعرفي الإدراكي بأنّ الحالات الإنفعالية الحسية
كالقنوات الموسيقية التي يمكننا تحقيق التناغم بينها.
في كثير من الأحيان، نلتصق بقنوات سلبية، لكن، يمكننا التغيير وتحقيق
التناغم مع قنوات إيجابية منسجمة.
يُعتبر المشي الجبلي من أكثر النشاطات المزيلة للتوتُّر.
فبعد المشي لساعات وسط الطبيعة، دون وجود هدف معين مختلف عن المشي من مكان
لآخر، يسترخي الشخص بشكل شبه كامل.
مهما بلغ التوتُّر مبلغه، الحديث مع الرفقة الممتعة، التمتُّع بألوان
وأصوات الطبيعة، التوقف للراحة:
تُهدِّئنا.
عندما نتوتر ونُعصّب ويتملكنا الخوف، فهذا يعكس التصاقنا بالقناة الخاطئة،
هي عبارة عن قناة للمواجهة و"القيام بالواجب" والشكوى أو التذمُّر.
ستتركز مهمتنا، في هذه اللحظات، على التناغم مع قناة أخرى، وهو ما سيساعدنا
في البحث عن الشِعْرِ المتوفر في محيطنا.
دوماً هو هناك!
كلما دخلت القنوات في انسجام أكبر، كلما تقدمت صحّة عقلنا أكثر.
كلما نحقق جولاتنا الهادفة لتحقيق التناغم أكثر، كلما يتحسن إحساسنا أكثر.
خطوة خطوة، سيحقق هذا العمل المُهدِّيء مهمته.
نختبر روعة الحياة ونكتشف حاجتنا للقليل للعيش بسعادة من خلال صيغة أخرى،
تتمثل بشحذ قدرتنا على تقدير الأشياء الصغيرة. حيث يمكننا القول بأنّ المنعة
الإنفعالية الحسية والسعادة، تكمن في أشياء الحياة الصغيرة:
كأس نبيذ، مقال مكتوب جيداً، قيلولة خفيفة بعد الأكل، نسمة صباح عليلة
..الخ.
عندما يدخل الشخص في عوالم العقلانية، سيلتقط جمال الحياة وسيُدرِك بأننا
كبشر قادرين على تقديرها بشكل هائل.
عندما نصل إلى مستوى عميق من السعادة الإنفعالية الحسيّة، سنتمكن من
الإحساس بالنشوة لدى رؤيتنا لأشعة الشمس في صباح ربيعيّ أو لأشكال هندسية بديعة في
مبنى ما أو من لفتة حنيّة من شخص ما في الشارع.
هي اللحظة التي تسكن الروعة خلالها الشخص في هذا العالم. من يعيش حالة
"الانتشاء الحيوي" هذه، بشكل شبه مستمر، يميل إلى محاولة خلق الجمال في
محيطه.
يتبع
مواضيع ذات صلة
العلاج المعرفيّ (1) مقدمة ومصادر هذه السلسلة
العلاج المعرفيّ (2) في أصل الإنفعالات الحسيّة
العلاج المعرفيّ (3) الإستفظاع هو أمّ جميع الإضطرابات الإنفعالية
العلاج المعرفيّ (4) الرغبات والإحتياجات
العلاج المعرفيّ (5) الإنشغال الزائد وروتين النقاش المعرفيّ
العلاجُ المعرفيُّ (6) الملل والخجل وإتخاذ القرارات
العلاجُ المعرفيُّ (7) الصداقة وإطلاق الأحكام والشجار والتهدئة
العلاجُ المعرفيُّ (8) العدالة وضرورة العمل
العلاج المعرفيّ (9) الإحباط والمعاناة من الواجبات والإهتمام بالصحّة
العلاجُ المعرفيُّ (10) مصدر السعادة والمنهج العلاجي الإدراكي المعرفي واتقدير الذاتيّ والإكتفاء
العلاجُ المعرفيُّ (11) تجاوز العُقد ولا للصراع مع الأشياء والأشخاص
العلاجُ المعرفيُّ (12) مواجهة المصائب ولا خشية من المسؤولية وضرورة تخفيف القلق
العلاجُ المعرفيُّ (13) ضرورة تجاوز الآلام والمخاوف والموت
العلاجُ المعرفيُّ (14) تحقيق التغيير والرعونة والغيرة والعيش وحيداً
العلاجُ المعرفيُّ (15) قواعد نافعة وبرمجة العقل والمنهج العلاجي المعرفيّ
العلاجُ المعرفيُّ (17) تخيلات عقلانيّة والتحكُّم بالإنزعاجات
العلاجُ المعرفيُّ (18) لا للقلق من المردودية والإهتمام باللحظات الحاضرة
العلاجُ المعرفيُّ (20 والأخير) علم صراع جديد وتعلُّم التحاور وقول لا




No comments:
Post a Comment