27
أؤكِّدُ لك، يا صديقي، أنّهُ بإمكاني توسيع قائمتي، التي تضمّ أولئك الآثمين؛ لكن، يُكتفى بواحد أو إثنين إضافيين، قبل الإنتقال إلى الجزء الثاني من مهمتي هذه، أي إقتراحاتي للتحسين.
فهناك من يهتم بالقشور ويبتعد عن اللبّ تماماً، هم من الهواة لا المُحترفين، ليس لديهم ميل لممارسة الإنتقائيّة السليمة، بل تراهم يتسكعون بين الصفات الأقلّ بروزاً؛ كحال الزائر المُتوجِّه لأولمبيا، والذي عوضاً عن الإهتمام بجماليات وعظمة المكان وهيبة زيوس، تراه يتحدث عن عن أمور شخصية محضة لا تحمل أيّة قيمة مثل مشترياته من أحذية وسواها.
28
على سبيل المثال، تعرفتُ على مؤرِّخ قد تحدث عن مجريات معركة يوروبس بسبعة أسطر، فيما خصَّصَ عدداً هائلاً منها للحديث عن جندي مغاربي، ولا يحمل كل ما ذكره عنه أيّة أهميّة. إسم الجندي موساكاس؛ تجوَّلَ بين التلال بحثاً عن المياه، فقابل بعض السوريين الذين يتناولون طعام الغداء؛ في البدء، بدوا مذعورين منه، لكن، عندما وجدوه على الطرف الآخر، وجهوا الدعوة له ليشاركهم الطعام؛ فأحدهم كان قد سافر إلى بلاد المغرب ولديه شقيق يعمل في الجيش. ثُمَّ ترد الروايات المُطوَّلة حول إصطياده هناك، وأنه قد رأى قطيعاً من الفيلة وهي ترعى، وكيف أنَّ أسداً قد حاول إلتهامه، وتحدث عن أسماك ضخمة الحجم قد إشتراها من قيصرية.
ترك مؤرخنا العجيب مجريات يوروبس الدموية وما فيها من تفاصيل هامة، ليتحدث عن سمك كبير الحجم في قيصرية، ولو أنّ الليل لم يحلّ مُبكراً، لتجرأتُ على القول أنه بقي للعشاء من السمك الذي إشتراه.
أيَّةُ معلومات قيِّمة تلك التي ذكرها في متن حديثه!
لم يتحدث عن خسارة الرومان وإكتفى بذكر أخبار الشاب المغاربي، التي لم أذكر إلا جزءاً بسيطاً منها وهي لا تحمل أيّة قيمة.
ليس هناك مبالغة، لدى القول بأنّ بعض المؤرِّخين لا يهتمون أبداً بتفاصيل الوردة الجوريّة ويكتفوا بإلقاء نظرة خاطفة عليها، لكن، يوجهون كامل إهتمامهم وفضولهم نحو الأشواك الموجوة أسفلها!
29
مؤرِّخٌ ظريفٌ آخر، لم يخرج من كورنثوس أبداً، ولم يتحرك بعيداً عن مينائها – فما بالنا برؤية سورية أو أرمينيا -، يبدأ حديثه بكلمات إنطبعت في ذاكرتي من شدّة دهشتي:
"لا تصدق الأذن كما تصدق العين، لهذا، أكتب ما رأيته، لا ما قد قيل لي او ما سمعته بأذني".
سجَّلَ ملاحظاته عن قرب لدرجة وصفه "للتنانين" البارثية (يستخدمون صيغة عددية – كقولهم ألف رجل إلى تنِّين، على ما أرى):
هي تنانين حيّة ضخمة، كما يقول، تعيش وتتكاثر في الأراضي البارثية أو الفارسية بعيداً عن شبه الجزيرة الإيبيرية؛ حيث تُوضَع على دعامات مرتفعة لتبث الرعب في قلوب المقتربين من أماكن بعيدة، وما إن تبدأ المعركة، حتى تُطلَق للإنقضاض على العدوّ، يبدو أنهم قد إلتهموا عدداً من الرجال فعلاً، فيما إختنق أو سُحِقَ آخرون.
هو شاهد عيان على كل هذه المجريات، يضع ملاحظاته، مع ذلك، فقد جلس على أغصان شجرة مرتفعة ليبتعد عن المخاطر.
الشكر للآلهة التي ألهمته بهذا الحل العبقري وإلا كُنّا فقدنا مؤرِّخاً قلَّ نظيره.
لقد واجه الكثير من العقبات وعاش غيرها من المغامرات. يقصُّ هذه الروايات على جمهوره الكورنثي عادة، جمهور مُدرك تماماً بأنّ هذا المؤرِّخ لم يشهد ولم يشاهد أيّة معركة في حياته.
هو لا يعرف شيئاً عن الأسلحة ولا الأجهزة، فلم يكن لأسماء التشكيلات العسكرية والمناورات أيّ معنى بالنسبة له، ينطبق ذات الأمر على تفريقه بين تشكيلة الأنساق والأرتال، بين الهجوم الأمامي وذاك الجانبي.
30
هناك مؤرِّخ زميل آخر باهر، هو الذي إختزل العمل كله من البداية للنهاية بالرسوم لخمسمئة خطّ (أو أقلّ، لتوخي الدقّة) – حملات عسكرية في أرمينيا، في سورية، في بلاد الرافدين، بالقرب من نهر دجلة، وفي بلاد الميديين، وبعد قيامه بهذا الأمر، يسميه تاريخاً.
يُعتبر عنوان كتابه أطول من سرد التفاصيل:
"سرد المعلومات المرتبطة بحملات الرومان العسكرية في أرمينيا وبلاد الرافدين وبلاد الميديين بقيادة أنطوخيانوس، المُنتصِر في مهرجان الإله أبولو"؛ وفي الغالب، قد نال جائزة على إنجازه هذا.
31
لقد تعرفتُ على مؤرِّخٍ يؤلِّف تاريخاً للمستقبل (يكتب نبوءات!)، بما فيه القبض على ملك ملوك فارس فولوغيسوس وإعدام الملك الفارسي أوسرويس (بإلقائه إلى مجموعة من الأسود التي فتكت به)، وتتويج كل هذا بالإنتصار المؤجل إلى أجل غير مسمى.
في هذا السياق التنبؤي، ينجرف بعجالة نحو إنهاء عمله؛ مع ذلك، يجد الوقت الازم لتأسيس مدينة رافدية، أعظم المدن، أجمل المدن، هو يُفكِّرُ مليّاً بإسم مناسب لها، أهو مدينة النصر "نيسه" أم مدينة التناغم "هرمونيا" أم مدينة السلام "إيرانيا"؛ لم يُقرِّر الإسم بعد، ويجب تركها دونه في الوقت الحاضر؛ لكن، هي مدينة قائمة حيّة مبنية على الحذلقة والكلام الفارغ والأحلام الوردية.
كذلك، تعهَّدَ بتغطية أخبار الهند ويكتب عن ملاحتنا الخارجية؛ لقد حنث بتعهده؛ فقد وضع مقدمته حول الهند سابقاً؛ فيما عبر الفيلق الثالث والفريق الكلتي وكتيبة مغاربية صغيرة نهر السند بقيادة كاسيوس؛ سيحدثنا مؤرخنا المميز، قريباً، عن أهم أعمالهم – طريقتهم في التعامل مع الفيلة، على سبيل المثال – في رسائل حول مدينة موزيريس أو أوكسيدراس.
32
عدد غير المثقفين، أولئك، لا حصر له؛ ليس لديهم عيون لتُلاحِظ على نحو مناسب، وحتى لو إمتلكوا عيوناً، فلن تجد لديهم مَلَكَة مناسبة للتعبير ولا قدرة على الإبتكار وتقديم موادهم ولا فهمهم لأنّ الكلمة الأولى تأتي من أسلوبهم؛ يفخرون بعدد كتبهم، ويهتمون بعناوينها أكثر، ولهذا، تفقد الكثير من قيمتها:
- بالتالي، الكثير من الكتب حول الإنتصارات البارثية أو الفارسية؛ الفرس، الكتاب الأول؛ الفرس، الكتاب الثاني – وهكذا دواليك.
لا رغبة لي بالضحك أو الإستهزاء من تلك التأريخات اللطيفة؛ أكتب لغاية عملية، هي:
كل من يتجنب الوقوع في هذه الأخطاء وما يشبهها، سيسير على طريق النجاح في كتابة التاريخ فعلاً؛ بل هو على وشك تحقيق هذا الأمر، إن تصح المُسلَّمة المنطقية، وبحالة عدم التوافق، فإنّ نقض واحدة سيعني تأكيد الأخرى.
33
حسناً،
قد يُقال لي بأنني بمواجهة حقل واضح المعالم؛ فقد جرى التخلُّص من كل الأشواك
المزعجة، نُقِلَت مخلفات المباني المتهدمة بواسطة العربات، جرى تمهيد الأماكن
الوعرة؛ تعال ونفِّذ بعض الإعمار بنفسك، وأظهر بأنك لست ماهراً في الهدم فقط، لكن،
بإمكانك التخطيط وحدك لنموذج، حيث لا يجد النقد ذاته شيئاً ينتقده.
يتبع
المصدر
مواضيع ذات صلة
إشراق لوقيان السميساطي الإرتيابي
No comments:
Post a Comment