41
إليكم نموذجي الخاص بالمؤرِّخ: هو شخص مقدام لا يعرف الخوف، غير قابل للإفساد، مستقلّ، صريح، صارم، دقيق، صادق؛ يسمي الأشياء بإسمها، لا يُقدِّمُ تنازلات لقاء ما يُعجب أو ما يُزعج (التحرُّر من الإنفعالات الحسيّة اللحظية)، ولا يتجنب التطرُّق إلى أيّ شخص تحت ذرائع كالشفقة أو الإحترام أو الحشمة؛ هو قاض محايد، لطيف حيال الجميع؛ لا يطلب من أحد شيئاً فوق طاقته، لا يتوقف عند ما يمكن أن يُفكِّر فلان أو علتان به، لكن، يضع الأمور في نصابها ويروي الأشياء كما حصلت بالضبط.
42
ثوقيديدس، مؤرِّخنا ومُشرِّعنا النبيل؛ سجَّلَ إعجابه بهيرودوت وأطلق على مؤلفاته التسعة إسم "إلاهات الإلهام"؛ في هذا المنحى، رسم خطاً فيه تدرُّج من المؤرخين الجيدين وصولاً للسيئين:
يجب أن يتسم عملنا بالديمومة وليس محاولة مؤقتة لنيل الإعجاب الآن؛ لا نغتنم الإثارة الإنفعاليّة الحسيّة، بل نُورِّثُ الوقائع كما وقعت فعلاً لأولئك القادمين لاحقاً؛ يُطبِّق المؤرِّخُ الحكيم إختبار الإستخدام ويُحدِّدُ النهاية التي سيضعها أمامه:
فإن تكرر التاريخ لمرّة ما، قد تُعطي سجِّلات الماضي توجيهات مفيدة في الحاضر.
43
هذه هي مباديء المؤرِّخ بالنسبة لي.
على مستوى البيان في الخطابة والأسلوب، ليس ضرورياً الهوس بالمطولات والبراهين والتعابير؛ فالمهم بالنسبة للمؤرِّخ هو كتابة نصّ متناغم موجز يمكن للناس فهم مضمونه إن يعرضه بشكل واضح مطلوب.
44
فالعلامات التي ذكرناها حول روح التأريخ – الصراحة والحقيقة – تتوافق مع أسلوب تأريخي يجب أن يتسم، قبل كل شيء، بالوضوح الذي لا يترك مكاناً للغموض وللإلتباس، بحيث يتفادى إستخدام عبارات غامضة مُسبِّبة للتشويش على ذهن القاريء، مثل إستخدام عبارات ليس لها علاقة بالموضوع قيد الكتابة؛ نأمل بأن يفهم المُبتذلون زارعو المدائح هذا الأمر. يجب أن يتصف التنميق اللفظي باللطافة لا بالإعاقة أو بسوء الإعداد.
45
لا يجب أن تتجرَّد روح المؤرِّخ من شيء من الشاعريّة؛ فهو يحتاج، كما الشعر، إلى توظيف إيقاعات ونغمات متنوعة مثيرة للإعجاب، سيما حين يجد نفسه وسط معمعة المعارك برّاً أو بحراً؛ حيث تهبّ العاصفة الشعرية لتُسرِّع السفينة وتمخر عباب الأمواج. لكن، يجب أن يتصف المحتوى بالتماسك، بحيث تتجلى جمالية وعظمة الموضوع، لكن، دون التسبُّب بتنفير المُستمع ودون نسيان التحلي بالمسؤولية، فهناك خطر داهم لدى الإغراق في الشاعرية أو الوصول لحالة هيجان شعريّ، فيصبح المؤرّخ كالفرس الهائج، ويتحول إلى كارثة لصعوبة التحكُّم بنفسه.
في هكذا مناسبات، يجب على المؤرِّخ معرفة ضبط نفسه والتحكُّم بإنفعالاته لا أن تتحكم هي به وتُفقده دقته ورصانته.
46
فيما يتصل بحشد كلماتك (ترتيب الكلام أو الكلمات)، فمن الواجب مراعاته بمهارة وإعتدال، فيجب على المؤرخ إمتلاك نغمة إلقائية مؤاتية، وإلا أمسى الإنشاء ركيكاً، كما أنّه لا يجب أن يخضع للأوزان على الطريقة الشعرية، لأنّ الأسلوب الأول خاطيء، كما أنّ الأسلوب الثاني مُستهجن.
47
لا تُجمَعُ الوقائع بالصدفة أو بطريقة عشوائية، بل بإهتمام وعناية وبذل الجهد الدقيق وتكرار البحث؛ وحين يغدو ممكناً، يجب على المؤرِّخ الحضور بنفسه لمعاينة تلك الوقائع، أما إذا تعذَّرَ هذا، فعليه الإعتماد على موثوقين خبيرين موضوعيين، وهنا، يحين وقت محاكمة تلك الوقائع وإقرار ما يُطابقها دون مبالغات وتضخيمات وتنميقات.
48
بمجرد إكتمال المادة قيد الكتابة، أو صارت شبه مُكتملة، يجب تحضير مُلخّص قصير عنها، يتضمن عرضاً شاملاً لمحتويات المادة، التي لم تتوزع إلى أقسام للآن؛ يجب ترتيب المعطيات المُدرجة، بعد ذلك، يمكن إضافة التحسينات اللازمة، ليأخذ الخطاب لونه، ليكتمل الأمر مع الصياغة والإيقاع.
49
يجب أن يصبح موقف المؤرِّخ، الآن، كموقف زيوس لدى هوميروس، عندما ألقى نظرة على أرض الفرسان التراقيين تارةً، وعلى بلاد الميسيين تارةً أخرى، فليعمل مثله ولينتبه إلى ما يصنع مواطنوه بدايةً، كي يرينا إيّاه من موقعه، ومن ثمّ ليلاحظ ما يقوم الفرس به، وأخيراً الإنتباه لما يصنعه الشعبان إن تقاتلا.
ولدى حدوث المواجهة، لا يجب عليه تسمير عينيه على فرقة واحدة ولا على رجل واحد، راكباً أو راجلاً – إلا إذا كان الجندي الإسبرطي براسيداس بشحمه ولحمه قائداً للمعركة، أو الضابط ديموستينيس وهو يصدُّه؛ عليه توجيه إهتمامه، بداية، نحو الضباط أو القادة؛ يجب أن يُسجِّلَ نصائحهم وإجراءاتهم بالإضافة إلى الخطط والدوافع التي حرَّكتهم.
لدى بدء المعركة، عليه تزويدنا بأدق التفاصيل، بحيث يُبيِّنُ الأمور كما هي على الأرض ويهتم بالمُطارِدين والمُطارَدين (بالكرّ والفرّ) على حدٍّ سواء.
50
يجب أن يحدث كل هذا بهدوء ورويّة وإعتدال؛ لا مجال للتهوُّر ولا لقلّة الأدب؛ لا إهمال للتناسب، لا للإنغماس الطفولي، لكن، مع إنتقال سَلِس.
يتوجب عليه التوقُّف هنا، فيما هو يعبر نحو مجموعة أخرى من العمليات التي تحتاج التيقُّظ والإهتمام؛ وإثر إنغماسه فيها، يمكنه العودة إلى المجموعة الأولى، التي أضحت جاهزة بالنسبة له؛ يتوجب عليه المرور على كل مجموعة من المجموعات سريعاً مُحتفظاً بخطوطه المختلفة بإتجاه التقدُّم قدر الإمكان، فيطير من أرمينيا بإتجاه آسيا الصغرى، وينطلق منها إلى إيبيريا، ومنها يتوجه نحو إيطاليا، فهو حاضر في جميع الأرجاء عندما تدعوه الحاجة إلى ذلك، حيث لا يجب عليه البقاء في المؤخرة، ولا للحظة واحدة حتّى.
51
يتوجب عليه تحويل عقله إلى مرآة صافية رائقة ذات سطح شفّاف؛ عندها، سيعكس عقله الأحداث كما هي في الواقع بالنسبة له دونما تشويه أو مبالغة أو تغيير.
لا يكتب المؤرِّخون مواضيع مدرسية ممتازة؛ بل يقولون ما يرونه أمامهم، بصيغة أو بأخرى، حول وقائع دامغة، فتتلخص مهمتهم بترتيبها وتحويلها إلى كلمات ونصوص؛ لا يهمهم ماذا أقول، بل الكيفية التي أقول من خلالها ما أقول. يجب علينا كمؤرخين أن نبدو مثل النحات العظيم فيدياس والنحات براكسيتيليز والنحات ألكامينيس أو أيّ نحّات عظيم آخر.
فهم لم يخلقوا الذهب والفضّة والعاج وغيرها من المواد التي إستخدموها بتحضير تماثيلهم، بل صنعوا بأيديهم النماذج من تلك المواد الأساسيّة تحضيراً وتزييناً أي أنهم رتَّبوا تلك المواد بطريقتهم ووصلوا إلى ما وصلوا إليه من أعمال هامة مميزة.
يُشبِهُ عمل المؤرخين عمل أولئك النحاتين، بحيث يعملوا على ترتيب أفكارهم ومعلوماتهم لتصل بأفضل الطرق وأوضحها.
عندما يُقدِّرُ القاريء ما قمنا به، فنحن نسير كمؤرخين في الدرب القويم والسليم.
52
بعدما يجهز كل شيء، في بعض الأحيان، على المؤرِّخ الكاتب البدء دون مقدمة رسمية، إن لم يكن هناك حاجة مُلحَّة لإلغاء الكلام التمهيديّ، فشرحه لما سيقوله هو عبارة عن مُقدِّمة إفتراضيّة.
53
لدى إستخدام مُقدِّمة رسميّة، قد يُهمَل أحد الأغراض الثلاثة التي يُكرِّسُ المُتحدِّث الجهد والوقت لها عادة؛ فليس على المؤرِّخ الرهان على نوايا المُتلقي الحسنة، بل على شدّ إهتمامه وعلى عقله المُنفتح فقط.
تتمثل الطريقة الخاصة بلفت إنتباه القاريء بإظهار عظمة ما سيحمله السرد وإلقاء الضوء على أمور أساسيّة هامة بالنسبة إليهم وقد تحمل الفائدة لهم؛ وما يحقق هذا الأمر هو الوضوح في متن العمل، الذي يتأمَّن من خلال تسهيل عرض التفاصيل وتبيان الأسباب وتقديم موجز دقيق للحوادث.
54
جرى توظيف هذا النوع من المُقدِّمات من قبل أعظم المؤرخين – مثل هيرودوت، "إلى نهاية ما حدث خلال زمن خاطف، كم بدا عظيماً وعجيباً معاً، فأظهر إنتصار اليونانيين وهزيمة البرابرة"؛ ويليه ثوقيديدس، الذي إنتبه قبل الاوان إلى أنّ حرب "البيلوبونيز" ستكون هامّة وتاريخية، "لقد بدت حرباً عظيمة لا سابق لها؛ فقد تراكمت ويلات لا تُحصى خلال مراحل حدوثها".
55
بعد المُقدِّمة، طويلة أو قصيرة بما يتناسب مع الموضوع، يجب حدوث إنتقال سلس طبيعي نحو متن الموضوع؛ حيث لا بداية ولا نهاية لهذا المتن بل سرد مُطوَّل؛ يجب أن يتسم هذا السرد بفضائل السلاسة والرزانة والتقدُّم المتسق دون تعالي ولا إنبطاح، والأهم التمتُّع بالوضوح – الذي أشرتُ إليه أعلاه، ويعود بجزء منه إلى الأسلوب والبيان في الخطابة؛ وبجزء آخر إلى طريقة معالجة الحوداث.
رغم وجوب تكامل جميع الأجزاء المستقلة عن بعضها فإنّه بعد الإنتهاء من الجزء الأوّل، سيدخل الثاني عبر إرتباط أساسيّ به، أي كأننا أمام سلسلة مترابطة من عدّة سلاسل متتابعة فلا إمكانية لفصلها عن بعضها البعض وليست مجموعة متجاورة موازية لبعضها البعض، بل تتداخل أطرافها ببعضها لدرجة الإمتزاج.
56
الإيجاز مرغوب على نحو دائم، سيما لدى وفرة المواد الواجب تدوينها؛ فالمشكلة جوهرية أكثر منها قواعدية؛ أعني أنّ الحلّ هو الحديث بإقتضاب عن الأشياء غير الهامة وتخصيص الإهتمام المناسب للحوادث الرئيسيّة؛ بل أحياناً، من الأفضل حذف تلك الأشياء غير الهامة. لنفترض بأنّك تُعدّ مائدة العشاء، مع عدد ممتاز من الأطباق؛ هناك الفطائر واللحوم على أنواعها من خنزير بري وأرانب بالإضافة إلى الخبز المُحلّى؛ حسناً، لن تذهب لتأتي بسمكة أو طبق من البازلاء لمجرد حضورهما في المطبخ؛ بل ستستغني عنها وتستمتع بالكثير المُتوفِّر.
57
الإقتضاب في توصيف الجبال والأسوار والأنهار وما شابه هو أمر بالغ الأهمية؛ لا يتوجب عليك إعطاء إنطباع يقول بأنك تستخدم الزخرفة اللفظية على حساب المضمون.
لمسة خفيفة فقط – ليس أكثر من تحقيق الإيضاح اللازم – ليتوجب عليك الإنتقال، فتتملص من الأفخاخ وتربأ بنفسك عن الإنغماس بهذا النوع من الشروحات.
خير مثال بالنسبة لك، هنا، المؤرِّخ هوميروس، كشاعر مثله، يمرُّ بعُجالة على أساطير مثل تانتالوس وإكسيون وتيتيوس بين غيرها.
لو حلَّ مؤرِّخون مثل بارتينيوس أو إوفوريون أو كاليماخوس محلّ هوميروس، لكتبوا مطولات بدل الأسطر القليلة الكافية والوافية التي إستخدمها هو. كما يفعل ثوقيديدس بالضبط، حيث يذكر العبارات المفيدة الواضحة والمُوضِّحة للحدث دون توسُّع فضفاض يخلق نوع من التيه والضياع، وبالتالي، تبديد الجهود وكأنه لم يكتب شيئاً.
ربما تعتبر بأنّ كلامه عن وباء ما طويلاً؛ لكن، عليك التدقيق بأهمية الموضوع وشروحاته لتُدرك إيجازه وأنّ التوسُّع فيه قد فرضه الموضوع ذاته، وبالتالي، يستحق هذا التوسُّع.
58
لدى تعلُّق الأمر بطريقتك بإلقاء الخطاب، فأوّل شرط مطلوب هو وجوب التناسب بين شخصية المُتحدِّث والمُناسبة؛ أما الشرط الثاني (ومن جديد) فهو الوضوح؛ لكن، في هذه الأحوال، يتوجب عليك التمتُّع بفصاحة المُحامي المُرافِع في المحاكم.
59
ليس الحال هو ذاته مع التمجيد أو التقريع؛ التي يجب على المؤرّخ تجنبها والتعامل بحذر مع النقد المُبالَغ فيه وتقديم الأدلة المنطقية الموضوعية غير الشخصانيّة، فالقامات التاريخية ليست سجينة بإنتظار المُحاكَمَة.
دون أخذ هذه المحاذير بعين الإعتبار، ستتحوّل إلى ثيوبومبوس آخر، كمؤرّخ يستسهل إطلاق الإتهامات جزافاً ويحول الأمر لمهنة فيصبح قاضياً يُحاكِم لا مُؤرِّخاً يُوثِّق.
60
في بعض الأحيان، تظهر حاجة لإدخال قصّة ما إضافيّة؛ لا بأس، لكن، يجب أن تتسم بالبساطة ودون خلطها بالوقائع ويمكن للمتلقي أخذها وفق فهمه لها؛ لا يُجازِفُ المؤرِّخُ ولا يمتلك تفضيلات على مستوى التوثيق (غير مُتحيِّز).
61
لكن، المبدأ العام الذي عليَّ التذكير به – ولا أملُّ من الكلام حوله – هو:
لا تكتب حول اللحظة الراهنة فقط، كي يُمجدك ويمدحك أولئك الأحياء الآن؛ بل وجِّه نظرك نحو الأبديّة، دوِّن لأجل قادم الأيّام والسنين، لكي تحصل على ما تستحق من مكافآت، ما هي هذه المُكافآت؟
هي أن يُقال عنك:
"عاش مؤرِّخاً حُرّاً وصريحاً واضحاً لم يخشّ في قول الحقِّ لومة لائم؛ لم يخضع لشهواته ومصالحه الشخصية على حساب الموضوعية"؛ هو إسم قد يُفضِّله أيّ شخص ناقد فوق كل آمال الحاضر المتوفرة.
62
هل تعلم قصّة المعماري الكنيدوسي العظيم؟
هو الذي بنى العمل الذي لا نظير له على مستوى الحجم والجمال، منارة الإسكندرية. أضيئت المنارة ليلاً لترشد السفن البعيدة للوصول بأمان.
بعد إنتهاء العمل بالمنارة، نقشوا إسم المعماري عليها، لكن، غُطيَ إسمه بلوحة من الجصّ عليها إسم الملك الحاكم.
عرف المعماري بهذا الأمر، وكما حدث بوقت لاحق، فقد سقطت اللوحة الجصيّة وظهرت العبارة الأصلية:
طلب سوستراتوس الكنيدوسي، وبإسم جميع البحارة العظام، من الآلهة المُنقذة، عدم الإهتمام بعمله على مستوى الزمن الذي سيعيشه، بل إعتباره عملاً لكل الأزمنة، طالما إستمرّت المنارة واقفة وتواصل عملها المفيد.
63
بالتالي، على المؤرِّخ، ومن جديد، الكتابة حول الواقع لا بإتجاه تحصيل الثناء، التطلُّع نحو المستقبل لا التركيز على نيل الإطراءات.
هذا هو المعيار الواجب على كل مؤرِّخ الإلتزام به. فإن تجد من يستخدم ما كتبت، فلم تكتب عبثاً:
لكن، إن لم يهتم أحد به، فلقد نبهتك من هذا الامر مراراً وتكراراً ولن يصلح
العطّار ما أفسدته أنت!
إنتهى
المصدر
مواضيع ذات صلة
إشراق لوقيان السميساطي الإرتيابي
No comments:
Post a Comment