Sunday, September 14, 2025

ردّ على مقال خرافة الحضارة الفينيقية وزيف التاريخ القديم - صقر أبو فخر: بالصور

البحث عن الفينيقيين هو العنوان الواقعيّ للكتاب الأصلي

هو مقال منشور العام 2024 بموقع ضفّة ثالثة

كما أنّ السيِّد عمر شبانة قد كتب حول ذات ذات الموضوع وبذات الموقع

 سأوردُ فقرات من مقال السيِّد صقر أبو فخر وبعدها صور فيها معلومات متنوعة كردّ، علماً أنّ الصورة أعلاه هي ردّ مُباشر، قد إنتبه له السيِّد عمر مشكوراً

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 6 ديسمبر 2024

اجتماع خرافة الحضارة الفينيقية وزيف التاريخ القديم

هل كان الفينيقيون يعتبرون أنفسهم شعبًا؟

الجماعة الإثنية، بالتعريف العلمي، هي الخلاصة المنطقية لسؤالين:

 كيف تُعرِّف جماعة ما نفسها (المنظور الداخلي)، وكيف يُعرِّفها الآخرون (المنظور الخارجي).

وترتبط الجماعة الإثنية، بعضها ببعض، بفكرة السلف المشترك وبالإقليم الجغرافي الواحد (أي الدم والتراب)، علاوة على اللغة والسمات البدنية والدين وغير ذلك. وبهذا التعريف نتساءل:

هل كان الفينيقيون يعتبرون أنفسهم شعبًا؟

وهل كانت الأقوام المجاورة تنظر إليهم كجماعة أو شعب؟

 والراجح لديّ أن الفينيقيين لم يكونوا، في أي طور من أطوار التاريخ القديم، جماعة أو شعبًا يعي انتماءه المشترك، ولم تظهر لديهم فكرة الاشتراك في الهوية أو الأصل الواحد أو التاريخ، ولم ينظر إليهم الآخرون على أنهم جماعة إثنية متجانسة.

ولعل أفضل مَن درس هذه الجماعات التجارية الجائلة جوزفين كراول كوين في كتابها "الفينيقيون: اختراع أمة" (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العدد 508، شباط/ فبراير 2024، ترجمة: مصطفى قاسم). وفي هذا الكتاب تؤكد الباحثة أنها لم تتوفر البتة على أدلة جيدة على أن الناس القدامى الذين نسميهم "الفينيقيين" عرّفوا أنفسهم بأنهم شعب واحد، أو تصرّفوا باعتبارهم جماعة دائمة التماسك. كما أنها لم تستنتج، من غياب الأدلة، أن الفينيقيين لم يكن لهم وجود في الماضي قط، أو أن أحدًا لم يسمِّ نفسه فينيقيًا (ص 308). وتضيف: "لم تُستخدم كلمة الفينيقيين في المصادر الأدبية اليونانية والرومانية للدلالة على جماعة إثنية في فينيقيا أو منها، بل كانت مجرد مصطلح غامض يشير إلى البحارة المشرقيين الذين يتحدثون لغة مميزة" (ص 121).

وتستطرد الباحثة بالقول: "إننا لا نجد في المشرق الكوزموبوليتاني شيئًا يوحي بوجود حضارة فينيقية أو هوية فينيقية" (ص 148). أما الكلام عن أن الفينيقيين لم يشكلوا جماعة إثنية تعي ذاتها، ولم يؤسسوا حضارة تاريخية واضحة المعالم، فقد أكّده باحثون كُثُر أمثال كلود بورين وكورين بونيه وإدوارد ألبيلدا وجوسيبي غارباتي وإيلينا بورغونيو وميخائيل سومر وإريك فان دونغن ونيكولاس فيلا وباولو إكسيلا الذين استندت إليهم جوزفين كوين في أبحاثها. 

لم يترك الفينيقيون أدبًا أو فنًا أو شعرًا أو أساطير أو ملاحم خلال الألف الأول قبل الميلاد. ومن المحال حقًا الحديث عن أدب فينيقي أو فكر فينيقي أو فلسفة فينيقية. وبهذا المعنى، فإن الفينيقيين القدماء لا تنطبق عليهم التعريفات المعيارية للجماعة الاثنية (ص 124) بما في ذلك المعيار الديني؛ فكان لكل مدينة فينيقية إله: ملقارت في صور، وأشمون في صيدا، وأدونيس في جبيل. أما النقوش الفينيقية التي وُجدت على الفخاريات والزجاجيات والحلي والنقود والمشغولات فكانت تُنتج في دمشق وحمص (إيميسا) وأفاميا (القريبة من حماة) ومنبج (هيرابوليس) واللاذقية (لاتاكيا) وأوغاريت وعمريت وماري وبابل وأنطاكيا وإيبلا ونينوى، وهي كلها، في أي حال، أدوات صامتة، فيما الفلسفة والشعر والآداب والعلوم والدين هي الأدوات الناطقة، علاوة على أوابد المدن، وهو ما لم يُعثر عليه إطلاقًا. 

ويقول الباحث غلين ماركو: "لا توجد أدلة على ارتباط مشغولات العاج الفينيقية بأي من مراكز الإنتاج الفينيقية. ولا توجد كذلك أدلة على وجود مشغولات معدنية أو عاجية في فينيقيا" (ص 135).

فالفينيقيون، ببساطة، كانوا سماسرة ووسطاء يتاجرون بما تُنتجه المدن السورية والعراقية.

 أما القليل القليل الذي أنتجته المستعمرات الفينيقية فكان مبتذلًا وبلا قيمة:

"فثمة تماثيل استُخرجت من القبور القرطاجية في جزائر البليار، إلا أنها كانت فجّة خالية من الدقة، وكثيرًا ما تكون بشعة لا تطيق العين رؤيتها كأنها صُنعت لإرهاب الأطفال أو طرد الشياطين" (ويل ديورانت، قصة الحضارة، الكتاب التاسع: الحضارة الرومانية، تونس: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 1988، ص 90). 

ما معنى فينيقي؟

كلمة فونيكس phoenix تعني شجرة النخيل أو طائر البلح أي طائر الفينيق. ومصطلح "فينيقي" المشتق منها لا يحمل أي دلالات إثنية على الإطلاق، لكنه يحمل، علاوة على معنى النخيل، معنى اللون الأرجواني (القرمزي) مع أن هذا الاشتقاق ضعيف إلى حد ما. وقد بات متقادمًا القول إن مصطلح "فينيقي" يعني اللون القرمزي، وإن هذه الصفة أطلقها اليونانيون على التجار السوريين الجوّالين، وما عاد أحد يأخذ هذا الكلام اليوم في الاعتبار. فلو كان اليونانيون أرادوا وصف أولئك البحارة بأنهم من ذوي البشرة الحمراء، لكانوا استعملوا عبارة Purple لا عبارة فينيق، أو استخدموا كلمة الموريسكيين المشتقة من صدف المُريق (الموريكس باليونانية) الذي يؤخذ منه الصباغ الأرجواني لوصف أولئك البحارة التي لوّحت الشمس أجسادهم فأكسبتها اللون الأحمر. 

ثم إن سانخونياتن الذي يُنسب إليه كتاب "تاريخ فينيقيا"، والذي كاد أن يندثر لولا فيلون الجبيلي الذي حفظ فصولًا منه، كتب كتابه هذا في الألف الثاني قبل الميلاد، أي قبل ظهور الإغريق بنحو 700 سنة، وجعل كلمة فينيقيا في عنوانه.  

"الراجح لدي أن كلمة "فينيقي" مشتقة من الجذر "فَنَق"، وتُنسب إلى الجد الأعلى فينيق؛ فالناس كانوا يُنسبون إما إلى مدنهم أو إلى جدهم الأعلى"

في أي حال فالراجح لدي أن كلمة "فينيقي" مشتقة من الجذر "فَنَق"، وتُنسب إلى الجد الأعلى فينيق؛ فالناس كانوا يُنسبون إما إلى مدنهم أو إلى جدهم الأعلى. وبحسب سانخونياتن فإن لأوزيريس أخًا يدعى "قنا" ويُلقّب بـِ "فونيق". وفي المرويات الأوغاريتية أن شقيقًا لقدموس كان يدعى "فونيكس". و "قنا" بالآرامية هي القاني أي الأحمر المائل إلى الزهري، حتى أن كلمة كنعان مشتقة من "كنع" أو "قنع" أو "قنا" أي القاني.  ولفظة "أرجو" في القاموس الآرامي تعني الحصان الأحمر، ومنها جاءت، على الأرجح، كلمة أرجوان. ولو استرسلنا في المقارنة والمطابقة والاشتقاق لوجدنا حِميَر من الأحمر. والفينيقيون، بهذا المعنى، هم تجار الصباغ الأحمر. والفينيقية هنا صفة لا تحمل أي دلالة على شعب، والفينيقيون هم رجال البحر، أو البحارة الذين لوحتهم الشمس فأكسبت جلودهم اللون الأحمر. أما كلمة بونيقي، أو بوني، باستبدال الباء بالفاء، فصارت تطلق على سكان المستعمرات الفينيقية الغربية. 

فينيقيون متكارهون

فينيقيا هي الجزء الساحلي من سورية المجوّفة. ويقول هيرودوت في تاريخه إن فينيقيا هي الجزء الشمالي من الساحل السوري الذي يشمل صور وصيدا وأرواد، وتفصله فلسطين عن مصر. ويؤكد هيرودوت أن فينيقيي صيدا يسكنون في سورية. 

أما جوزفين كراول كوين فتقول، نقلًا عن مصادر فارسية، إن هؤلاء الفينيقيين جاءوا من البحر المسمى البحر الأرتيري (أي البحر الأحمر وربما امتداده حتى المحيط الهندي والخليج العربي) واستوطنوا في البلد الذي ما زالوا يعيشون فيه، أي سورية (راجع كتابها الفينيقيون: اختراع أمة، مصدر سبق ذكره، ص 108). وصورة فينيقيا الجغرافية تشير إلى أنها لم تكن منطقة لجماعة إثنية من الناس، بل منطقة فيها عدد من المرافئ، ولكل مرفأ نطاق جغرافي ضيق يحيط به، وهو نطاق المساحة والسكان والموارد. ولم تشكل المدن الفينيقية وحدة سياسية البتة، ولم تتعاون معًا إلا نادرًا. كما أن القوى الإمبراطورية آنذاك (فارس ومصر واليونان) لم تعامل فينيقيا على أنها منطقة سياسية موحدة أو مقاطعة واحدة (أنظر: الفينيقيون: اختراع أمة، المصدر السابق، ص 128-129). والمدن الفينيقية أمثال صور وصيدا وأوغاريت وجبيل وأرواد وأسميرا (سميرنا أو أزمير الحالية) كانت مدنًا متنافسة لا متحالفة، فلم تنجد أي مدينة أختها في أثناء هجوم الآخرين عليها، ولم تتحالف معًا في أي يوم من الأيام. وعندما غزا عزيرو الحثي مدينة أسميرا وأخضع أرواد، استعان بأهل هاتين المدينتين على ملك جبيل فأعانوه، وأعانه أيضًا ملك بيروت الذي هاجم جبيل واستولى على أسطولها. ولما استسلم زمريدا ملك صيدا لعزيرو الحثي، عاونه على آبي ملكي ملك صور. وعندما زحف الإسكندر على مدينة صور أنجده مَلَكا جبيل وقبرص.

وكانت صور وقفت وحيدة أمام الحصار البابلي (585 و572 قبل الميلاد)، وأمام حصار الإسكندر (332 ق. م.)، ولم تنجدها صيدا، أو أي مدينة فينيقية. وكذلك جرى إحراق المدينة عندما حاصرها ملك الفرس ارتحششتا الثالث، ولم تدافع عنها أي مدينة فينيقية أخرى. والملوك الفينيقيون هم ملوك على مدن لا على جماعة إثنية من الناس مثل ملك جبيل وملك صيدون (صيدا). وكلمة "ملقارت" تعني ملك المدينة وليس بالضرورة أن يكون اسمًا لشخص محدد. وكان كل ملك من ملوك تلك المدن يُلقّب بـِ "خزانو" أي الوالي، أو جامع الضرائب. 

بخصوص: أصولُ الفينيقيين  

من الصيد إلى التجارة

الفينيقيون الأوائل كانوا صيادين، وبالتدريج تحولوا إلى التجارة البحرية. وكلمة تير ومنها صور، تعني الصياد (تيرو). وبعل تير تعني رب الصيد، وصيدا مشتقة من الصيد. وقد أُسست صيدا كمرفأ للتجار ودُعيت مدينة الصيادين. وبعد انهيار الحثيين في الأناضول، والكيشيين (أو الكاشيين) في بابل، واليونان في نحو سنة 1200 ق. م.، سنحت الفرصة لجماعات من التجار في موانئ الساحل السوري (صور وصيدا وجبيل وأوغاريت وأرواد) كي يتوسعوا في تجارتهم مع الجزائر الغربية في البحر المتوسط (صقلية وسردينيا) بعدما كانت تلك الجزائر حكرًا على اليونان. وبالتدريج، راح هؤلاء التجار يؤسسون مستعمرات تجارية (مستودعات للبضائع وأماكن سكن) في قبرص مثلًا. وكانت أشهر مستعمراتهم قرطاجة. أما بيروت فلم تكن فينيقية قط، بل مستعمرة رومانية لقدامى المحاربين الرومان، وكانت اللغة اللاتينية والثقافة الرومانية هي السائدة فيها (المصدر السابق، ص 224). ومدرسة الشرائع في بيروت أنشأها الرومان لتخريج موظفين يتولون إدارة المناطق الواقعة في نطاق إمبراطوريتهم. وكان المعلمون فيها من الرومان وكذلك الطلاب، ولم يكن لسكان البلاد أي صلة بمدرسة الحقوق تلك. 

"بيروت لم تكن فينيقية قط، بل مستعمرة رومانية لقدامى المحاربين الرومان، وكانت اللغة اللاتينية والثقافة الرومانية هي السائدة فيها. ومدرسة الشرائع في بيروت أنشأها الرومان".

كانت المستعمرات الفينيقية، في بداية نشوئها، مجرد مستودعات للبضائع يديرها وكلاء تجاريون ومحاسبون، وفيها منازل عشوائية للوكلاء والبائعين والمحاسبين والعمال والحراس، ولم تكن مدنًا كما يتراءى للأذهان. وقرطاج التي أُسست في حوالي 814 ق. م.، لم تزدهر إلا بعد أن دمّر الإسكندر مدينة صور، وبعد أن هرب كثير من تجارها إلى الساحل الافريقي. وقد أحرق القائد العسكري الروماني سيبيون قرطاج وحرثها في عام 146 ق. م. ولم يُبقَ فيها حجرًا على حجر. وآثار قرطاجة اليوم هي ما بناه الرومان، ولا تمت إلى الفينيقيين بأي صلة.

الأخلاق البونية الوضيعة

صورة الفينيقيين في المصادر الإغريقية والرومانية تشير إلى أنهم "ماكرون وكاذبون ومحتالون وخوّانون للعهود والأمانات وسارقو نساء". وبحسب إحدى الحكايات الأسطورية، جاءت جماعة فينيقية إلى مدينة أرغوس اليونانية ومعها بضائع من أشور ومصر. وبعد عدة أيام اختطفوا آيو، إبنة ملك أرغوس، وفروا بها إلى مصر حيث تزوجها الملك بيلوس عنوة وأولدها إيجبتوس الذي منح مصر اسمه (المصدر السابق، ص 108 و113). 

وفي إحدى محاوراته يمتدح أفلاطون أهل أثينا لأنهم هيلينيون خالصون لا يختلطون بالبرابرة من نسل بيلوس أو قدموس أو داناؤوس أو إيجيبتوس. وفي إحدى مسرحيات أريستوفان تقول إحدى الشخصيات: "ها أنا أصبح فينيقيًا بامتياز: أعطي الشيء بيد وأسلبه بالأخرى". ويقول شيشرون في خطبة له في عام 54 ق. م. إن العرق الفينيكسي هو الأكثر احتيالًا (المصدر السابق، الصفحات 108 و113 و114 و118).

 

ويقول  أرسطو: "تدل آثار كثيرة على أن سردينيا كانت مستعمرة يونانية، وكانت بالغة الغنى في ما مضى، وأُنعم عليها بقوانين أريسته الذي أُثني كثيرًا على ولعه بالزراعة. غير أنها انحطت بعد ذلك إلى أسفل الدرك لأن القرطاجيين أصبحوا سادتها، فقضوا فيها على كل ما يمكن أن يجعلها صالحة [لإنتاج] الغذاء، وحظروا الزراعة معاقبين بالموت كل مَن يحرث أرضًا فيها" (راجع: مونتسكيو، روح الشرائع، ترجمة عادل زعيتر، القاهرة: دار المعارف، 1953).

ليست الفينيقية هوية إثنية إطلاقًا. إلا أنها، في بعض جوانبها ومظاهرها، هوية استعمارية، أو في خدمة المستعمرين. فقد استأجر الأسطول الفارسي كثيرًا من سفن الفينيقيين في أثناء احتلال الفرس لمصر لاستخدامها في معاركهم ضد اليونان. وثمة تفريق بين الفينيقيين والناطقين بالفينيقية؛ فالناطقون بالفينيقية هم سكان المستعمرات الغربية الذين كانوا يتكلمون اللغة البونية. والمتحدثون بالبونية ليسوا بالضرورة متحدرين من المهاجرين الفينيقيين الأوائل. ومصطلح "العالم البوني" يشير إلى الفينيقي الغربي أو القرطاجي. وكلمة "بوني" تعني قرطاجي أو فينيقي من سكان المستعمرات الغربية (سردينيا وما جاورها). وفي هذا السياق التاريخي شاعت عبارة "الوفاء البوني" وصارت مضرب المثل على انعدام الوفاء لدى البونيين (فينيقيو المستعمرات الغربية)، وعلى الاحتيال وخيانة الأمانة، حتى أن ليفي اليوناني وصف هنيبعل (حنّبعل) بأنه "عريق في الغدر البوني" (المصدر السابق، ص 119 و120). ويقول ويل ديورانت في موسوعته "قصة الحضارة": "إن المؤرخ ليستحي إذا سئل عن أصل الفينيقيين، فهو لا يرى بدًا من الاعتراف بأنه يكاد لا يعرف شيئًا من التاريخ الباكر أو التاريخ المتأخر لهذا الشعب (...)، ولسنا نعرف من أين جاء الفينيقيون أو متى جاءوا. وهم ما كانوا يفرّقون بين التجارة والغدر. وفي إحدى المرات أغروا أهل اسبانيا بأن يعطونهم مقادير من الفضة نظير الزيت، لكنهم استبدلوا الفضة بما كان في مراسي سفنهم من حديد وحجارة وأقلعوا بها (...)، وكانت الأمم التجارية تودع أموالها لديهم (...). أما أخلاق هؤلاء فهي خلاف أخلاق الإسبان، وهؤلاء يتصفون بنشاط عجيب وميل إلى الكسب الكثير وبعدم الأمانة (...). ومن الغريب أن يكون الصينيون أشد شعوب الأرض خداعًا، خصوصًا في التجارة. فعلى من يشتري أن يحمل ميزانه الخاص، ولكل تاجر صيني ثلاثة موازين: ميزان ثقيل للشراء، وميزان خفيف للبيع، وميزان عادل لمن يأخذ قدره" (مونتسكيو، روح الشرائع، مصدر سبق ذكره). 

الفينيقية المبتذلة ولبنان

ربما كان طنوس الشدياق أول مَن ربط جبل لبنان بفينيقيا في كتابه "أخبار الأعيان في جبل لبنان" الصادر في سنة 1859، والذي أعادت الجامعة اللبنانية نشره في سنة 1970. ولكن جبل لبنان عند طنوس الشدياق غير متصرفية جبل لبنان التي ظهرت في سنة 1861. وجبل لبنان بحسب طنوس الشدياق هو "جبل بين طرابلس وبعلبك" من أعمال حمص أو من نواحي جند حمص. وجبل لبنان، في الأصل، يضم جبة المنيطرة وبشري والبترون وبلاد جبيل، وكان يتبع إما حمص أو باشوية طرابلس (أنظر: كمال الصليبي، "بيت بمنازل كثيرة"، بيروت: مؤسسة نوفل، 1990، ص 92)، الأمر الذي يعني أن مقاطعات كسروان والشوف والمتن وسهل البقاع لا علاقة لها بجبل لبنان، بل كانت تابعة لولاية دمشق. وفي بعض الفترات كان الشوف يتبع ولاية صيدا. وبُعيد تأسيس متصرفية جبل لبنان غداة المذابح الأهلية بين الدروز والموارنة في سنة 1860، بدأت النزعة الفينيقية تتململ في بعض الأوساط المسيحية. ثم ارتبطت هذه النزعة، في ما بعد، بالسعي الماروني لإنشاء دولة مسيحية منفصلة عن سورية. وكان يوسف السودا هو الأب الروحي لنزعة الانفصال عن سورية، وتبعه في ذلك ميشال شيحا وشارل قرم ثم هيكتور خلاط وألبير نقاش، ولاحقًا شارل مالك وسعيد عقل وإدوارد حنين وفؤاد أفرام البستاني وجواد بولس وغيرهم. وتطورت تلك النزعة إلى ضرب مقزز من العنصرية، التي رفعت شعارًا يقول: "لا إبل في لبنان"، أي أن لبنان ليس عربيًا، على اعتبار أن العرب هم رعاة إبل. وهؤلاء اخترعوا أمة فينيقية، وراحوا يغذون اختراعهم الخرافي هذا بدراسات ومقالات وأبحاث مفبركة ومصنوعة لخدمة أفكارهم، لا لخدمة العلم التاريخي، أو التاريخ كعلم.

يقول إريك هوبزباوم: "إن الأمم الحديثة هي كيانات جديدة في التاريخ، لكنها تزعم أنها موجودة منذ القدم"، وهذا ما ينطبق تمامًا على الفكرة القومية الفينيقية. وفي هذا الحقل المعرفي لا بد من ذكر الدور الذي أدّاه سباتينو موسكاتي في هذا المجال، فقد أعاد تأسيس قسم للدراسات الفينيقية في جامعة روما في سنة 1963، وأقام معرضًا عن الفينيقيين في البندقية في سنة 1988 برعاية الصناعي الإيطالي جياني أنيلّي صاحب شركة فيات. واستغرب كثيرون تلك الرعاية الصناعية المريبة، لذلك شاعت في الأوساط الأكاديمية نكتة تقول إن موسكاتي اخترع الفينيقيين، أما أنيلّي فقد صنعهم. ومهما يكن الأمر، فقد اختفى الفينيقيون من التاريخ بالتدريج، وخلال حقبة زمنية غير طويلة بعد غزو الإسكندر لسورية في سنة 302 ق. م. وهؤلاء اندثروا نهائيًا في سنة 64 ق. م. مع الاحتلال الروماني لسورية من غير أن يتركوا أثرًا في الأدب أو الشعر أو الرسم أو الفلسفة أو الدين أو الصنائع أو الفنون أو الهندسة أو العمارة أو الملاحم أو الأساطير. وحتى الحروف الأبجدية التي تُنسب اليهم إنما هي ابتكار جماعي آرامي، لكن الفينيقيين، بحسب ويل ديورانت، هم الذين نقلوها إلى مدن البحر المتوسط، وإلى بلاد الاغريق تحديدًا، ولم يكونوا مبتدعيها قط.

كل ما أوردته من صور هو عيِّنة بسيطة من المعلومات حول الفينيقيين وما تركوه من مآثر على جميع المستويات، الفينيقيّون أحياءٌ في اللغات والصناعات والفلسفات ولن يندثروا أبداً

قد يهمكم الإطلاع على مواضيع ذات صلة

فينيقيُّون غرناطيُّون

أصولُ الفينيقيين  

الفينيقيُّون

الأبجدية الفينيقية

  اللغة الفينيقيّة – الجزء الأوّل

اللغة الفينيقيّة – الجزء الثاني والأخير

الثقافة الفينيقيّة - الجزء الأوَّلْ 

الثقافة الفينيقيّة - الجزء الثاني والأخير 

أغذية، سلطة وهويّة المجتمعات الفينيقية الغربية - الجزء الأوّل 

أغذية، سلطة وهويّة المجتمعات الفينيقية الغربية - الجزء الثاني 

أغذية، سلطة وهويّة المجتمعات الفينيقية الغربية - الجزء الثالث 

 أغذية، سلطة وهويّة المجتمعات الفينيقية الغربية - الجزء الرابع والأخير

التغذية لدى الفينيقيين والقرطاجيين 

إسهامات الفينيقيين والقرطاجيين في التغذية المتوسطية 

الأبجدية الفينيقية بالصوت 

 فينيقيُّون في البرازيل - الجزء الثاني

فينيقيُّون في البرازيل - الجزء الثالث والأخير 

ساهمت أساطيل الفينيقيين بنشر المعرفة بكثير من المنتجات - بقلم: نوريا باغينا 

كيف وصل الفينيقيُّون إلى أميركا الجنوبيّة؟ - الجزء الأوّل 

كيف وصل الفينيقيُّون إلى أميركا الجنوبيّة؟ - الجزء الثاني 

كيف وصل الفينيقيُّون إلى أميركا الجنوبيّة؟ - الجزء الثالث والأخير 

قصّة قدموس وأوروبا الفينيقية 

أساطير فينيقيّة 

آلهة وإسطورة خلق فينيقية 

الأنبياء الفينيقيون الرئيسيون 

قصّة أليسار (ديدو) وتأسيس قرطاجة الفينيقيّة 

فلاسفة فينيقيون بارزون 

أسماء مصر القديمة المُستخدمة في فينيقيا 

 نظرة عامة حول ملابس الفينيقيين

كيف تصوّر الفينيقيُّون الجسد؟ 

 فينيقيُّون، عبريُّون وكابريُّون


No comments: